د. ناصيف حتي
TT

الصين الشعبية والحرب الأوكرانية

يقول المسؤولون الصينيون في الكثير من تصريحاتهم إن بكين قد اتخذت موقفاً من تطورات الأزمة الأوكرانية يمكن وصفه بحياد الأمر الواقع. الأمر الذي يعني نوعاً من سياسة التوازن الدقيق بين طرفي الصراع والمشي على حبل مشدود. وكان وزير الخارجية الصيني قد صرح بأن «قرارنا هو أن نبقى على الحياد». وفي السياق ذاته صرّح السفير الصيني في واشنطن خلال مقابلة إعلامية بأن المصالح المشتركة بين بلده وروسيا هي بمثابة رصيد يساعد في محادثات السلام. رغم ذلك فإن أوساطاً أميركية وغربية وجّهت الكثير من الاتهامات إلى بكين بتوفير بعض الدعم المختلف لروسيا، دون تقديم أي أدلة واضحة على ذلك.
وللتذكير، امتنعت الصين الشعبية عن التصويت على مشروع قرار إدانة روسيا في مجلس الأمن والذي لم يمر بالطبع بسبب الفيتو الروسي، كما أنها امتنعت عن التصويت إلى جانب القرار الذي يُدين روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة. لكنّ الرئيس الصيني رأى أن الولايات المتحدة وأوروبا اعتمدت منطق الحرب الباردة في هذه الأزمة، وهو نقد واضح في هذا الإطار لسياسة إدارة النزاع غربياً.
في السياق ذاته، وفي انتقاد مباشر للسياسات الغربية، رأى نائب وزير الخارجية الصيني أنه كان على الحلف الأطلسي (الناتو) أن يتفكك مثلما حصل مع حلف وارسو ويصبح جزءاً من التاريخ... ويعكس هذا الموقف النظرة الصينية التي ترى أن الغرب ما زال يريد مد نفوذه إلى الحدود الجغرافية لروسيا وهو ما يهدد الأمن القومي لهذه القوة الكبرى، وبالتالي هو ما لا يمكن أن ترضى به هذه الأخيرة، وهو أيضاً بمثابة درس للصين الشعبية فيما يتعلق بمجالها الحيوي المباشر مستقبلاً.
الصين الشعبية لم تُدِن الاجتياح الروسي ولكنها لم تدافع عنه، كما يصف أكثر من مراقب الموقف الصيني. لكنّ بكين تحمِّل «الغرب» مسؤولية أساسية في اشتعال الأزمة، وبالتالي هذه الحرب حاملة لتداعيات خطيرة والمفتوحة على جميع أشكال التصعيد الممكن. الصين الشعبية ترى، كما يصرح وزير خارجيتها، أنها تقف على الجانب الصحيح من التاريخ، باعتبار أنه يجب إسقاط قواعد وآليات لعبة الصراع الدولي التي كانت سائدة خلال الحرب الباردة، بعد انتهاء هذه الأخيرة والتحولات التي حصلت والتي هي أخذةٌ في الاستقرار، والتي تستدعي بلورة نظام دولي جديد... نظام يقوم على قواعد وآليات جديدة للعلاقات بين مختلف قواه وأطرافه. في هذا الإطار مثلاً تكرر الصين الشعبية رفضها للموقف الغربي الذي يدعو لاستبعاد روسيا من مجموعة العشرين للقوى الاقتصادية الدولية، وتؤكد بالتالي عدم جواز «تسييس» هذا التجمع. كما تعارض الأصوات الغربية لعدم دعوة روسيا إلى المشاركة في الاجتماع القادم لمجموعة العشرين الذي ينعقد في نوفمبر (تشرين الثاني) في إندونيسيا. كما تدعو الصين الشعبية الولايات المتحدة للتفاوض مع روسيا حول المسببات العميقة (أو الاستراتيجية في لعبة القوى الكبرى) للأزمة الأوكرانية كبديل لمنطق التصعيد المفتوح. الأمر الذي يعني، من المنظور الصيني، التفاوض حول قواعد إدارة الصراع والتنافس الاستراتيجي في مختلف «المسارح» الاستراتيجية التي بسبب تاريخها وموقعها قد تكون سبباً للخلاف والتوتر في ظل التحولات الحاصلة دولياً، قبل أن تستقر هذه التحولات لتشكل قواعد لنظام دولي جديد، نظام يتشكل على أساس التفاهمات التي تَنتج عن الحوار بين مختلف القوى الدولية... طموحات الصين الشعبية بشأن التوسع الاقتصادي العالمي لبكين الذي تعبّر عنه مبادرة «الحزام والطريق»، تستدعي من بكين الحفاظ على علاقاتها الغربية والأوروبية بشكل خاص وتعزيز هذه العلاقات وإسقاط الحواجز الاقتصادية وغيرها التي تنتجها وتعززها الصراعات العائدة والجديدة. فإذا كانت بكين في السياسة الدولية أقرب إلى موسكو فإنها في الاقتصاد الدولي أقرب إلى الغرب. لكنّ ذلك لا يعني أن بكين لا تعمل على تعزيز موقعها في العالم كقطب استراتيجي دولي، والعمل على بلورة وتعزيز هذا الموقع يمر من بوابة الاقتصاد. ونرى إرهاصات هذا الدور السياسي في الدبلوماسية الصينية الناشطة في الملف الأفغاني عبر استضافتها للمؤتمر الوزاري الثالث لدول الجوار الأفغاني ولآلية التشاور حول أفغانستان، وهذه الأخيرة تضم دبلوماسيين روساً وأميركيين إلى جانب ممثلين للدول الأخرى المعنية.
وفي سياق الدبلوماسية الصينية الناشطة دولياً في مختلف الأقاليم الدولية، تعمل بكين على التحضير لمؤتمر دولي في النصف الأول من هذا العام لتسوية الصراعات في منطقة القرن الأفريقي وذلك عبر اتصالات مكثفة ومتنوعة مع مختلف الأطراف المعنية. الأمر الذي يعكس أيضاً الأهمية التي توليها الصين الشعبية للقارة الأفريقية على جميع الأصعدة الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية.
ولكنّ الأولوية الضاغطة حالياً بالنسبة إلى بكين تتمثل في الأزمة الأوكرانية. الأمر الذي يستدعي تعزيز الانخراط الدبلوماسي بأشكال مختلفة، مباشرة وغير مباشرة، لتشجيع ولإنجاح عملية التسوية السلمية لتلافي عودة منطق صدام الأقطاب الكبار أو منطق الحرب الباردة. المنطق الحامل، عبر «مسرح المواجهة» في أوكرانيا، وأياً كانت عناوين تلك المواجهة، لتداعيات مكلِّفة على الجميع وعلى المصالح العالمية للصين الشعبية.