داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

من أنفاق القطارات... إلى «ملاجئ يوم القيامة»

ستظل أجيالنا الحالية والأجيال اللاحقة تتذكر أفواج اللاجئين الأوكرانيين، كباراً وصغاراً، ومعهم حيواناتهم الأليفة، إلى عشرات السنين المقبلة بعد انتهاء الحرب الروسية في أوكرانيا. صارت محطات القطارات وحافلات النقل العام مراكز مؤقتة لإيواء اللاجئين الهاربين من القصف الذي طال العمارات السكنية والمدارس والمستشفيات والشوارع والمسارح والأسواق... وحتى المقابر. وتحولت أنفاق القطارات إلى ملاجئ عامة تحت الأرض وفنادق في انتظار القطارات التي تنقل اللاجئين إلى مدن بعيدة عن القصف أو الحدود الدولية لأوكرانيا مع دول أخرى مثل بولندا.
ليس هذا فقط، لكن المحطات والملاجئ تحولت أيضاً إلى استوديوهات مفتوحة تنتشر فيها عدسات القنوات الفضائية من مختلف الجنسيات، وتبث أخبار العائلات الهاربة إلى المجهول، مثلما رأينا نحن العرب مآسينا في حروبنا الدولية والأهلية في العراق وسوريا وليبيا والسودان واليمن، وقبلنا جميعاً، اللاجئون الفلسطينيون منذ عام 1948 وحتى اليوم.
لا أحد منا ينسى مشاهد ضحايا سفن تهريب البشر الباحثين عن أوطان جديدة عبر البحار، فغرقت سفنهم المستهلكة، بمن فيها من رجال ونساء وأطفال لفظتهم الأمواج إلى رمال السواحل.
وكلما وردت عبارة «الملاجئ»، يتذكر العراقيون بأسى بالغ الجريمة الأميركية الشنيعة بقيام طائرتين «F – 117» تحملان قنابل ذكية يوم 13 فبراير (شباط) 1991 بقصف أكبر ملجأ مدني في العراق اسمه ملجأ العامرية في ضواحي بغداد، ورقمه 25، وقتلت 408 أشخاص، من بينهم 261 امرأة و52 طفلاً رضيعاً، وكان أصغرهم طفلاً عمره سبعة أيام لم يعثروا على أي أثر له ولا صورة، بالإضافة إلى 26 مواطناً عربياً. ولم ينجُ أحد من الموت. لقد هربوا من الموت إلى الموت.
ومن السخرية المؤلمة أن ينتقد المسؤولون الأميركيون اليوم روسيا، لأن قواتها أيضاً تقصف المدنيين في كييف عاصمة أوكرانيا وميناء ماريوبول على البحر الأسود، وخاركيف ومدن وقرى أخرى، وشمل القصف مستشفيات ولادة ومدرسة تؤوي مئات المدنيين ومسرحاً احتمى فيه الناس العُزل من القصف والبرد. وقال عمدة ماريوبول إن المسرح كان يغص بأكثر من ألف شخص، وأكثريتهم نساء وأطفال يختبئون طوال أسبوعين تجنباً للصواريخ والقذائف قبل أن تحل المأساة التي نجا منها بعض الأفراد. وبدأ الجيش الروسي عمليات حجز أفراد أوكرانيين مدنيين لمبادلتهم مع أسرى روس عسكريين، ومن بينهم رئيس بلدية مدينة ميليتوبول الذي أطلقوا سراحه مقابل إطلاق سراح تسعة جنود روس. وقد تحدث الرئيس الأوكراني زيلينسكي مع رئيس البلدية قائلاً: «إنني سعيد بسماع صوت رجل على قيد الحياة»!
ولعل أكثر الملاجئ العالمية التاريخية وأغربها ما تم إنشاؤه خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومنها ملجأ للجنود لا يخطر على بال أحد اكتشفه هواة تسلق الجبال في إيطاليا. وتحول اليوم إلى ملجأ لإقامة المتسلقين يحميهم من البرد الشديد وانزلاق الكتل الجليدية، وهو على ارتفاع 2700 متر عن سطح البحر، وله باب واحد أمامي فقط وثلاث نوافذ ولا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق تسلق الجبل.
اليوم هبت عواصم ومدن أوروبية بفعل رياح حرب روسيا في أوكرانيا إلى تخصيص ملاجئ تحت الجسور، وفي أنفاق القطارات وتحت العمارات والمدارس والمسارح وملاعب كرة قدم. إلا أن سويسرا احتاطت لهذا الأمر منذ سنوات، وهيأت مئات الملاجئ والمخابئ المؤقتة في كل مكان مع توفير أنظمة دفاعية تُعد الأفضل حتى الآن، سواء على صعيد حرب تقليدية أو نووية أو كيماوية؛ وتستطيع استيعاب 85 في المائة من سكان سويسرا إذا تعرضت لهجوم نووي، وفيها أغذية وأدوية وإسعافات طبية وملابس واقية وأماكن للنوم ومياه للشرب والغسيل، و7000 صافرة إنذار لتحذير السكان في الطوارئ. وتوفر السلطات أدوية ضد الإشعاعات النووية أو التسريبات الكيماوية والبيولوجية.. يعني ملاجئ «فيرست كلاس» لكل السكان.
وبين انفجار صاروخ وآخر يحث رئيس بلدية مدينة خاركيف في شرق أوكرانيا السكان على الاحتماء بمحطات المترو والمخابئ المضادة للقنابل وأقبية العمارات. هذه الحرب من طرف واحد هو روسيا، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا ينفي ذلك. وليس أمام الجيش الأوكراني سوى الدفاع عن المدن ومحاولة منع الجيش الروسي من دخول العاصمة والمدن الأخرى. فحتى الآن، ومنذ شهر مضى، لم توجه أوكرانيا أي قصف جوي أو صاروخي إلى روسيا، بينما تحولت مدن أوكرانية شبه كاملة إلى أنقاض خالية من السكان الذين لجأوا إلى الدول المجاورة بحثاً عن الأمان.
وإذا تطورت الحرب الصاروخية إلى حرب عالمية كيماوية أو حتى نووية في أسوأ الأحوال، فإن الولايات المتحدة ابتكرت ما يسمى «ملاجئ يوم القيامة» بنتها شركة في ولاية تكساس، معقل الكاوبوي في أفلام الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي، وأبطالها كاري كوبر وجون وين، واستخدمت الشركة في بنائها الحديد الصلب 100 في المائة، ويتم دفنها تحت الأرض على عمق يتجاوز ثلاثة أمتار، ويفترض أنها تحمي من القنابل النووية وإشعاعاتها، خصوصاً بعد تهديدات الرئيس الروسي بوتين بوضع السلاح النووي على أهبة الاستعداد. وسعر الملجأ العائلي يتراوح بين 40 ألف دولار صعوداً إلى 8 ملايين دولار، حسب مساحته ورفاهية تجهيزاته. وتقول الشركة إن قائمة عملائها تشمل مشاهير السياسة والإعلام والفن والرياضة، وباعت عدداً من هذه الملاجئ في عام 2019 إلى الجيش الأوكراني.
ولجأت السويد إلى بناء أكثر من 65 ألف ملجأ تتسع لسبعة ملايين شخص، بالإضافة إلى مستشفيات وغرف صخرية فيها مراكز قيادة عسكرية. وشعار السويد في هذا المجال «ملاجئ للجميع»، وليس للحكومة والجيش فقط. وهي تنصح في وقت الإنذار باللجوء إلى أقرب ملجأ إلى أن تسمع نهاية الإنذار.
في فرنسا كلها 1000 ملجأ منها 400 لفئات خاصة و600 للجيش، وهي أرقام متواضعة لا تفي بالغرض بالنسبة لدولة تعداد سكانها يقارب السبعين مليون نسمة.
وقد ارتفعت بعد بدء الحرب الروسية في أوكرانيا طلبات الملاجئ الجاهزة التي تتلقاها شركة فرنسية رائدة في هذا المجال، وبلغت 700 طلب، وتتراوح مساحات الملاجئ بين ستة أمتار مربعة و100 متر مربع، وتبدأ أسعارها بتكلفة 150 ألف يورو، لكنها لن تُسلم إلى أصحابها إلا بعد أربعة أشهر، واحتمال بعد خراب البصرة! ويلجأ بعض السكان إلى حفر ملاجئ في حدائقهم المنزلية تقيهم من العواصف والأعاصير والقصف.
والآن: أين نحن العرب من هذا الأمر؟ لم نقرأ أو نسمع عن خطط لبناء ملاجئ مجهزة بالكهرباء والمياه والمستلزمات الحياتية من أغذية وأغطية وأدوية. لجأت أكثر من دولة عربية في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى إلزام أصحاب المباني السكنية المرتفعة بتخصيص الطابق الأرضي في كل عمارة ليكون ملجأ في أوقات الحروب.
وما زال هذا الإلزام قائماً في هندسة معظم العمارات. لكن في أوقات السلام يتم استخدام هذه المساحة لمبيت السيارات أو لشركات تجارية أو سياحية أو بنوك، وبعضها تحول إلى «ديسكو» عربي وإفرنجي. ديسكو ولا قنابل وصواريخ!
ويعتقد باحثون خبراء في معهد «أميركان إنتربرايز»، أن اجتياحاً روسياً مسلحاً لأوكرانيا بهذا الحجم لم يشهده العالم إلا في عام 2003 خلال الغزو الأميركي للعراق، فاستحقا بذلك الدخول إلى موسوعة الأرقام القياسية على يد كل من الرئيسين بوش الابن وبوتين.