إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

حروف تجيد الدغدغة

«تعالي جربيها يا سيدتي. ما أن تلمسيها فلن تطيقي فراقها». والسيدة خبيرة بألاعيب الباعة وخبراء ترويج البضائع لكن يحدث أن تقع في الفخ، أحياناً. تقع بكامل رضاها مثلما يقع مراهق في وهدة الحب. والبائع، هذه المرّة، لا ينوي إقناعها بشراء مرهم مقاوم للتجاعيد ولا مكنسة لوبر القطط. إن ما تراه أمامها هو بالضبط ما يغريها ويثير اهتمامها. كان يعرض عليها لوحة مبتكرة لمفاتيح الحاسوب، ذلك المستطيل الأبكم الذي يستقر طوع اليدين. تجلس لمعاقرته بالساعات، كل يوم، بينما تجوب عيناها نصوصاً وصورا وعوالم بعيدة تتتابع على شاشة مضيئة.
رأت لوحة لمفاتيح الحروف لا تشبه ما لديها في البيت. تحفة أنيقة رشيقة ملوّنة بألوان قوس قزح. تتردد في أن تمد يدها لملامستها خشية أن تذوب مثل حلوى غزل البنات. أهذا كل ما لديك أيها البائع الغاوي، دمية ملونة لطفلة تتعثر في أن تكبر؟ لا يا سيدتي. إن هذه اللوحة تتكلم بصوت هامس لطيف. تداعب الحواس مثل جنية خفية. جربيها واختبري بنفسك سحرها.
جلستْ الزبونة إلى لوحة الحروف ومدت سبابة اليمنى. نقرت على حرف الحاء فشعرت بكهرباء لطيفة تتسلل إلى كفها. هل تجيد الحروف الدغدغة؟ مرت بحرف الراء مرور الكرام. خافت أن تندلع حرب على الشاشة. تجاوزته ونقرت على الباء. ظلت في منطقة آمنة وتركت أناملها تسرح فوق أحرف وأرقام بارزة، مقببة بخفة وغير مقعرة. يكفي أن تهم بها فتلبي وتستجيب وتكتب بطواعية.
يا لهؤلاء التجار الشطّار. ما أن تقتني بضاعة جديدة حتى يفاجئوك بما هو أجدّ وأكثر جاذبية. يكمنون لك في مراكز التسوّق وهم يرتدون بدلات مفصّلة على قاماتهم وأربطة عنق براقة. يصففون شعورهم وفق أحدث التسريحات. لو قام زلزال لا تفارق شعرة مكانها. شباب في مقتبل العمر. بلا كروش ولا صلعات. كأنما جيء بهم من المسارح وأفلام السينما. خطفوهم من الاستوديو ولقنوهم فنون الإقناع والمساومة. ترى عمرو دياب يعرض عليك هاتفاً ذكياً، وراغب علامة يريد أن يبيعك سيارة، وماجد المهندس يذبّل عينيه لتقتني عطراً شرقياً.
لكن العطر شيء ولوحة المفاتيح شيء. إن لكل حرف لوناً. مثل حبات الشوكولاته المستديرة الصغيرة المغلفة بأغشية حمر وصفر وبرتقالية. كان الأجدر أن يعرضوا هذه اللوحة في قسم الحلويات، لا الإلكترونيات. إن سحرها لا يتجلى في شكلها فحسب بل في صوتها. بالأحرى همسها.
داخت الزبونة وهي تلامس الأحرف والأرقام. فهي لم تسمع الضربات الرتيبة المعتادة التي سرعان ما تتحوّل إلى تعذيب. بل وشوشة سريّة وخلابة. وهذا البائع الألعبان يستعير ضحكة أحمد زكي وهو يدرك أنها على فوهة الفخ. تقدّم إصبعاً وتؤخر أخرى. يؤكد لها بأن النقر على هذه اللوحة هو دغدغة تنتقل إلى الدماغ مباشرة. تدليك للأعصاب. وأن الاشتغال عليها لن يجهدها بل سيريحها. لن يكون العمل اليومي واجباً بل نزهة.
هل تشتريها؟ لم يكن السعر في المتناول لكنه ليس ما يقلقها. شعرت بأنها فأرة في مختبر للتجارب. هناك من يقتحم عقلها من خلال أنملة سبابتها. كيف ستتصرف عندما يأتي حفيدها ويجلس في حجرها وهي تعمل على حاسوبها؟ هل تترك الطفل ابن السنتين يعبث بمفاتيح الحروف، كالعادة، أم تخاف عليه من برمجة فئران التجارب؟