جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

... والجميع خاسرون

في مقهى بإحدى ضواحي القاهرة... كنا نتابع أخبار الحرب... سألني أحد الجالسين من الرابح في الحرب الروسية الأوكرانية؟
السؤال مباغت... فبقدر أهميته وبساطته... بقدر تعقيدات الإجابة عنه.
تذكرت في تلك اللحظة وليم غلاوستون صاحب مقولة: «الحرب مأساة يستعمل فيها الإنسان أفضل ما لديه ليلحق بنفسه أسوأ ما يصيبه». قلت لصاحب السؤال: «يا عزيزي: في الحروب لا أحد يكسب... هكذا تعلمنا من التاريخ، والتاريخ صانع ماهر للأحداث، وعلينا أن نتعامل بحذر مع الأوقات التي يُعيد فيها التاريخ نفسه. وسط صوت الأسلحة تصمت القوانين، وتضيع الحقوق والعالم كله سيدفع الثمن».
لو وضعنا الحسابات على طاولة المكسب والخسارة، وبدأنا على سبيل المثال بروسيا التي خاضت الحرب، نجد أنها ستدفع خسائر كبيرة وأثماناً باهظة على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، فلا أحد ينكر أنه منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا سقط من الروس جرحى وقتلى وأسرى. أيضاً الخسارة الكبرى تتعلق بالمستقبل الاقتصادي للدولة والشعب الروسي، نحن أمام اقتصاد سوف يتعرض لمزيد من الهزات والضربات بفعل الإجراءات الغربية التي فرضت على روسيا، لا سيما التي تتعلق بنظام التحويلات المالية «السويفت»، ويعني هذا القرار عزل روسيا عن النظام المالي العالمي، الأمر الذي ترتبت عليه تداعيات قاسية على المواطن الروسي، الذي لم يعد يخفي قلقه من إطالة زمن الحرب، خصوصاً بعد أن صدمته نسب التضخم ووصول سعر الدولار إلى مائة وثلاثة عشر روبلاً، وهو ما دفع الحكومة الروسية لرفع سعر الفائدة على الودائع. بالإضافة إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية بإغلاق المجال الجوي أمام كل الطائرات الروسية، وهذا يعني عزل روسيا بالكامل عن هذه الدول، وإصابة حركة الطيران بالشلل. الورقة المهمة أيضاً التي خسرتها روسيا هي التي تتعلق بقرار ألمانيا بتعليق العمل بخط الغاز الروسي «نورد ستريم2»، الذي ينقل 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي إلى أوروبا، وتبلغ تكلفته 10 مليارات يورو، تأثير القرار الألماني جاء سريعاً... فقد أعلنت الشركة المسؤولة عن تشغيل الخط عن إفلاسها بالكامل، وتسريح جميع العاملين بها، ناهيك عن قيام الشركات الغربية التي تعمل في مجال الطاقة بسحب استثماراتها من مشروعات الطاقة الروسية.
أما الخسائر الاستراتيجية فنجد أن الحرب دفعت دولاً محايدة مثل السويد وفنلندا وجورجيا ومولدوفا نحو السعي إلى الانضمام لحلف «الناتو»، أملاً في الحصول على مظلة الحماية وعدم تكرار تجربة أوكرانيا.
على الجانب الآخر فإن أوكرانيا نتيجة هذا الصراع المتراكم قد أصيبت بشلل، وتوقف تام لحركة الاقتصاد والتجارة، لا سيما أن الحرب لم تترك مكاناً، بل إنها غطت كل المحاور والأقاليم الأوكرانية، كذلك ضاعف خسائر «كييف» الاعتراف الروسي بإقليم الدونباس، وهو ما يعتبر خصماً من وحدة وسلامة الأراضي الأوكرانية، ناهيك عن قيام نحو مليون أوكراني بترك منازلهم هرباً من جحيم الحرب، رغم أن الأمم المتحدة تتوقع أن يصل العدد إلى 5 ملايين لاجئ.
لو امتد خط الخسائر على استقامته فسيصل إلى المحطة الأوروبية، فنجد أن المواطن الأوروبي لم ينج من ارتدادات وتداعيات هذه الحرب، فقطعاً يتأثر بارتفاع أسعار الغاز والبترول التي وصلت إلى مستويات قياسية ضاعفت فاتورة الطاقة ثلاث مرات، ودخول أوروبا في ورطة البحث عن مصادر جديدة للحصول على الطاقة بديلاً عن الغاز والنفط الروسي. هذا فضلاً عن ظهور حالة ارتباك جديدة لدى دول شرق أوروبا مثل المجر وبولندا، وبلغاريا ودول بحر البلطيق الثلاث من خلال السعي لشراء أسلحة جديدة واستضافة مزيد من الجنود الأميركيين تحسباً لامتداد الحرب إلى أراضيها، وهذا من شأنه إنهاك ميزانيات هذه الدول، كما أنه لا بد من الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي سيكون الوجهة الأولى لملايين اللاجئين الأوكرانيين، الأمر الذي يفرض أعباء على حكومات وميزانيات تلك الدول، في حين أنها لم تتخلص بعد من تبعات موجة اللاجئين السوريين عامي 2015 و2016.
الجغرافيا لم تشفع للولايات المتحدة في هذه الأزمة، فرغم بعدها الجغرافي فإنها لن تكون بعيدة عن الخاسرين، فستدفع ثمناً لهذه الحرب، وسوف تواجه ارتفاع أسعار النفط والغاز وسقف الديون والتضخم إذ تجاوز سعر النفط مستوى 114 دولاراً للبرميل للمرة الأولى منذ عام 2014، كما أن واشنطن ستلجأ إلى إرسال قواتها لدعم حلفائها في الجناح الشرقي من أعضاء الناتو، والعودة إلى القواعد التي غادرتها منذ ثلاثة عقود وهذا من شأنه أن يُكبد الخزينة المالية تكاليف باهظة، وربما ينعكس كل هذا بالسلب على شعبية الحزب الديمقراطي لا سيما أنه مقبل على انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
العالم كله سيدفع الثمن سياسياً واقتصادياً وعسكرياً... لا أحد يربح من هذه الحرب... توترات اقتصادية، وهزات في البورصات العالمية، انسدادات في شرايين التجارة الدولية البينية، ارتفاع أسعار تفرضه تداعيات الحرب، تنامي الشعور بعدم اليقين في منظومة الاقتصاد العالمي.
وسط كل هذه الخسائر والمخاوف من تدفق المزيد من تداعيات وارتدادات الحرب، فإنني أرى أن الخيار الدبلوماسي والحلول السياسية بعيداً عن لغة البندقية والرصاص هو أقصر الطرق لإنقاذ ليس فقط شعبي روسيا وأوكرانيا بل إنقاذ العالم بأكمله.