خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

أوكرانيا... حكمة دون كيشوت تقود الناتو

غرض انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي غرضٌ مشروع، على الورق. غرض مثالي بالنسبة لقادة أوكرانيا في مسعاهم للحفاظ على استقلال البلد عن جارتها الضخمة روسيا. لكن المشروعية «القانونية» للغرض لا تزيد وزنه السياسي. ذلك أن السياسة ليست مرافعة حقوقية، بل تكريس لموازين القوى على الأرض. وإلا لما كان من جدوى لمبدأ مونرو الأميركي، الذي يعد أي محاولة من القوى الأوروبية «لتوسيع سيطرتها على أي جزء من هذا النصف -الغربي- من الكرة الأرضية بمثابة خطر على سلامنا وسلامتنا». أو لَمَا كان لأزمة الصواريخ الكوبية في ستينات القرن الماضي محل للإعراب. فهو اتفاق مع دولة ذات سيادة، كوبا، كما اتفاق حلف الناتو مع دولة ذات سيادة، أوكرانيا. السياسيون يعلمون ذلك. لا يحتاجون إلى الجدال حوله في أحاديثهم المباشرة. لكننا نعيش عصر تغول للإعلام ما بعد المؤسسي، عصر عصبية وتوتر. فقدت فيه المؤسسات الإعلامية الكبرى احتكارها التوجيه الثقافي والسياسي. ومعه فقدت مؤسسات سياسية ذراعاً قوية لتنفيذ خططها. واستعاض الجميع عن ذلك بمزيد من الإجراءات القمعية لتحجيم الآراء التي لا تتماشى مع أهداف المؤسسة السياسية الغربية المعاصرة.
شنَّ اليسار الغربي المهيمن على خطاب ما بعد الحرب الباردة حملات إعلامية وأكاديمية لإعادة كتابة السياسة والثقافة وقيمهما لدى الرأي العام. والهدف تحويل قناعات اليسار الجديد إلى ما يشبه الأحكام القانونية إلى مفردات دينية، وتحويل معارضيها -أو المستدركين عليها- إلى خصوم يستحقون الطرد من الكنيسة. صار الإعلام الغربي وريثاً للمؤسسة الكاثوليكية الأوروبية في القرون الوسطى. هذه الحرب القيمية الاستقطابية نجحت في تعميم التلقين على قطاعات أوسع. ونجحت في إكساب اليسار الغربي وزناً انتخابياً يفوق وزنهم السياسي. لكنها، على الجانب الآخر، خلقت قطاعات أكبر من الرافضين، والمتشككين، والمتربصين بالمؤسسة.
رأينا ذلك في الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي. ورأيناه في انتخاب ترمب رئيساً للولايات المتحدة. ورأيناه في ميل الناخب الأوروبي خطوة خطوة نحو اليمين.
الآن أجادل بأن هذا السلوك عاد ليعاقب المؤسسة السياسية الغربية في موضوع روسيا وأوكرانيا، على مستويين: المستوى الأول هو مستوى الرأي العام للمواطن العادي. ما حدث في أوكرانيا صدمة للوعي الأوروبي الحالي، حيث أجيال متتابعة عاشت في حقبة سلام ظنت أنها لا تنهار. أوروبا كلها في جسم اقتصادي سياسي واحد من خلال الاتحاد الأوروبي، وفي جسم عسكري واحد من خلال حلف شمال الأطلسي، ومن الطبيعي أن ينزعج المواطن الأوروبي بشدة مما حدث.
لكنني أدّعي أن رد الفعل الشعبي الأوروبي أقل كثيراً مما كان متوقعاً. وأدّعي أن السبب في ذلك هو اهتزاز الثقة بالمؤسسة. وأدّعي أن أحد أسباب اهتزاز الثقة هي الحرب الاستقطابية الإعلامية، التي نخرت مصداقية القيم الغربية التي استظلت بها هذه المؤسسة واكتسبت منها مشروعيتها الأخلاقية. هذا التشكك عبّر عن نفسه بالفعل على المستوى التنفيذي، بما لا يحتاج منّي إلى ادّعاء. أشرتُ إلى «بريكست». والرئيس ترمب ألقى في ذهن المواطن الغربي شكاً في النجاعة الإجرائية للذراع العسكرية أيضاً، أو حلف الناتو، حين أصرّ على أنه متضخم أكثر من وظيفته، وأن الأوروبيين لا يأخذون موضوع الأمن بجدية. جعل هذا حلف الناتو يختار أولوياته حسبما يتناسب مع «عزمه»، وليس ما يتناسب مع الضرورات السياسية. ومنها اعتبار روسيا -المنهكة اقتصاديا وسياسياً- العدو الأساسي. ترمب أراد إعادة توجيه السياسة بالتنسيق مع روسيا وتوجيه الجهد نحو شرق وجنوب شرقي آسيا. والأزمة الحالية في أوكرانيا أثبتت أن وجهة نظره استحقت التقييم السياسي، وليس الاغتيال بالإعلام كما حدث، ولا الإصرار على أن «ناتو» كيشوت «زي الفل»، وليس في الإمكان أبدع مما كان.
حلف الناتو قدم لأنصار رأي ترمب خدمة كبرى. رد الفعل الضعيف للحلف ترك في نفس الفرد العادي أن ثمة شيئاً عكراً في الأزمة. ربما تكون ضحيتها أوكرانيا أكثر من غيرها. أوكرانيا نفسها عبّرت عن هذا على لسان رئيسها. دولة صدّقت حلفاً يقدم نفسه على أنه عمود الأمن في العالم، ويبرر ميزانيته وتوسعه بالحاجة إلى الجاهزية. لكن ها هو، يملك خطط توسع لم تكن حتمية ولا حيوية ولا ضرورية، ثم يفشل في التعامل مع نتائجها في مواجهة القوة «الإقليمية» الوحيدة التي سُمِّن لردعها.
المستوى الثاني هو مستوى الدول، الحلفاء. لم يعد خافياً على أحد أن الولايات المتحدة لم تجد من حلفائها، ولا سيما في الشرق الأوسط، رد الفعل الذي طمحت إليه. وأنها مارست ضغوطاً قوية من أجل انتزاع إدانة للاجتياح الروسي كانت لتحدث تلقائياً في الظروف العادية. هذا أيضاً له صلة وثيقة بآلة الدعاية اليسارية الغربية التي شوّشت بوصلة الديمقراط، والمؤسسة السياسية الغربية كنتيجة. وأنا أعني شوَّشتها قيمياً، في مستوى عميق من عملية إنتاجها. من الفضائل السياسية -ولاحظوا كلمة الفضائل- القدرة على تفهم اختلافات المجتمعات. على التفرقة بين المطموح إليه وبين الممكن إجرائياً ومن ثم المطروح عملياً. أقول من الفضائل لأن الناظر إلى التاريخ يستطيع أن يرى بسهولة كيف تطورت المجتمعات الأوروبية. يفهم الإطار الزمني لهذا التطور، يفهم اختلاف المُركّبات الأساسية للمجتمع الغربي عن غيره: الدين والفلسفة والاقتصاد والطبيعة الجغرافية والأنشطة الإنتاجية. الخطاب الراديكالي هنا يعبّر عن عقلية لا تتمتع بفضيلة سعة الأفق السياسي، ولا فضيلة البراغماتية السياسية، ولا فضيلة القدرة على تدوير الزوايا والوصول إلى حلول وسط.
النتيجة الطبيعية لتخلي اليسار الغربي عن الحلفاء في قضايا مصيرية، واقعية، مادية، كالتهديد الإيراني والإرهاب الحوثي، ثم حجب المساعدات العسكرية عن مصر وهي تواجه خطر الإرهاب، هي زعزعة الثقة السياسية. رأينا ذلك في الأزمة الروسية – الأوكرانية، وسنراه أكثر في المستقبل.