إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

زنزانة لي وحدي

سنبقى نتذكر مقالة «غرفة لي وحدي» للبريطانية فرجينيا وولف. كاتبة من أيقونات الأدب «النسائي» الحديث. ولن أدخل هنا في متاهة سؤال: هل يوجد هناك أدب نسائي وأدب رجالي؟ فهذا ليس موضوعنا.
الموضوع هو الغرفة الخاصة بالمرأة، لا سيما إذا كانت باحثة أكاديمية أو كاتبة مثل فرجينيا وولف، تحتاج لمنطقة تنعزل فيها عن ضجيج الأسرة، تفكر وتتأمل وتتفرغ لمتطلبات إبداعها. وحتى لو لم تكن كاتبة، ألا يحتاج كل إنسان إلى مساحة ينفرد فيها بنفسه، حتى ولو كانت زنزانة؟
في فرنسا تقليد قديم يعود للقرون الوسطى، هو تخصيص حجرة أنيقة في قصور النبلاء، تقع ما بين صالة الطعام وغرف النوم، لسيدة القصر. واسم هذه الغرفة الـ«بودوار». تلجأ إليها لتنتبذ مكاناً قصياً، حين تشعر بالحاجة إلى ساعة صفاء، أو لتبادل الحديث مع صديقة، أو حتى لاستقبال صديق. ولو أردنا ترجمة المفردة الفرنسية فهي المكان الذي تقصده المرأة حين تستاء من أمر ما وتكون مهمومة وزعلانة. امتياز لنساء الطبقة الأرستقراطية لا يتوفر لبنات العامة.
صدر للماركيز دو ساد، في القرن الثامن عشر، كتاب عن «البودوار». أراد فيه تلقين الأوانس الصغيرات على أسرار تلك العزلة. فنون الأنوثة. وترك لخياله العنان حول ما يمكن أن يدور هناك من مصارحات ملتبسة أو علاقات مثيرة. ظهرت تلك الحجرة ابتداء من القرن الثالث عشر. ثم تطورت في قصور الملوك وصار لها هندستها وأثاثها الذي يشبه أثاث الصالونات. وجيء بالمهندس بيير روسو لكي يصمم «بودوار» الملكة ماري أنطوانيت في قصر «فونتينبلو». وهناك ما يشبهه في «التريانون»، القصر الأنيق الواقع في محيط «فيرساي». قطع الثوار الفرنسيون رؤوس الملوك والملكات وتحول المكان إلى استراحة لرؤساء الجمهورية. وما زالت زوجاتهم يفضلنها على باقي القصور. وعندما اكتشفت شريكة الرئيس هولاند أنه يخونها خرجت من «الإليزيه» غاضبة وذهبت لتزعل في «التريانون».
بقي «البودوار» منطقة نسائية بشكل خاص طالما أن الرجال يجتمعون في غرفة الاستقبال لتبادل أحاديث لا تثير اهتمام زوجاتهم. وبشكل موازٍ له ظهر «الفوموار»، وهي الحجرة الرجالية المخصصة للتدخين. ويمكن لمن يزور متحف «اللوفر» أن يطالع لوحات لرسامين دخلوا معتكَف النساء، بفتح الكاف، وتصوروا ما يمكن أن يجري فيه. نرى المرأة في تلك اللوحات جالسة إلى منضدة للكتابة، أو متخففة من ثيابها، مستلقية على أريكة أنيقة، تقف أمام المرآة تمشط شعرها، أو ساهمة تتطلع من النافذة. لكن الصومعة لم تكن محظورة على الرجال، والمحظوظ هو من يُدعى إليها.
تغضب الزوجة من زوجها، فيما مضى، وتذهب لبيت أهلها. تنتظر أن يحضر ليصالحها. لم يكن المنزل يضمهما لوحدهما بل هو بيت العائلة، مع والدي الزوج وجدته وأشقائه وشقيقاته. أما في البيوت الحديثة فإنها تخرج من غرفة النوم المشتركة إلى حجرة تزعل فيها. تمسح دمعتها بإباء. وفي أغنية جميلة لمطربنا العراقي يوسف عمر يخاطب المحبوب قائلاً: «أنت دولة مستقلة». وهي لا تريد الاستقلال بل الاحترام. وحتى الطفلة الصغيرة تجد لنفسها زاوية متوارية تختبئ فيها، مع دميتها، بعيداً عن ملعنة الأشقاء.
لا أكتب هذا بمناسبة اليوم العالمي للمرأة بل لأن من حق كل فرد أن يحدد مساحته التي لا يتجاوز عليها الآخرون. والنساء هن أكثر من تهضم حقوقهن. أحضانهن مفتوحة بدون استئذان.