عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الحقيقة «الغائبة» في زمن الحرب

«الحقيقة أولى الضحايا، عندما تأتي الحرب» قالها حاكم كاليفورنيا في 1918، السيناتور هيرام جونسون (1866 - 1945) - بفلسفة الانعزالية الليبرالية، وحولها الكاتب والوزير البريطاني آرثر بونسونبي (1871 - 1946) إلى كليشيه «الحقيقة أولى ضحايا الحرب».
الكليشيه المأثور كان موضوع نكتة مع زملائنا (المجموعة الصحافية البرلمانية في وستمنستر) بسبب الإرهاق في السعي مائتي متر بين مكاتبنا تحت ساعة بيغ بن، وداوننغ ستريت، مرتين في اليوم، إلى جانب حضور اللجان والجلسات المختلفة. الحرب بين الروس والأوكرانيين (مستمرة بالنيابة في جنوب شرقي أوكرانيا لسبع سنوات لكنها غائبة عن الوسائل الصحافية الغربية والعالمية)، أضافت منذ يوم الخميس أعباءها. لأننا أيضاً نقتفي خُطا رئيس الحكومة، وكان ظهر أمام مجلس العموم أربعة أيام متتالية يعقب كل مرة «بريفينغ» تحليلي مع مستشاريه، ومثيلاتها مع مستشاري زعيم المعارضة؛ بجانب «بريفنغ» إضافي مع مستشاري الدفاع والخارجية.
التوازن والحيادية كانا أسهل في زمن سيادة الصحافة المطبوعة، كمهمة «ديسك التحرير» الذي يوازن تقارير المراسلين المختلفين بجانب خرائط ورسوم توضيحية في صفحات يمسكها القارئ. التوازن شبه مستحيل في زمن سيطرة التلفزيون، وكل شبكة من جانب واحد في استقطاب حرب باردة التهبت قبل أيام، وصحافيين بلا خبرة تذكر وقعوا، بلا وعي، في شباك بروباغندا ذكية، وكل جانب يقنعهم «بنبل» الدفاع عن «الضحية» ضد «المعتدي». قلة من كهول الصحافة، نسعى للحياد، خاصة أننا نشارك كمعلقين في شبكات عالمية وليس فقط البريطانية. ومن المستحيل معرفة «حقائق» ما يدور بلا متابعة عشرات الصحف والشبكات الإذاعية؛ لكنها مهمة أقل صعوبة نسبياً عن وقت دخول السوفيات أفغانستان قبل أربعة عقود، بسبب وجود شبكات فضائية أو عن طريق الإنترنت، والمستقلين على «يوتيوب».
متابع الشبكات الغربية لا يدرك مثلاً أن القوات الأوكرانية تقصف مناطق الانفصاليين من عرقيات روسية لأنها لا تبث من دونيتسك، أو لوغانسك. أما المعلق السياسي فيضطر لمتابعة الشبكات الروسية بالخدمات الإنجليزية التي تضع مراسلين وكاميرات في هذه المناطق، وبدورها تنظر من عدسة «وطنية روسية» لا محايدة.
كم من المشاهدين الروس وقت الحرب سيتابع شبكات عالمية أو عبر التواصل الاجتماعي، التي تحتاج لإمكانيات وإتقان لغات أجنبية؟
فسياق الرواية في التلفزيون الرسمي، يضخم من قوة تيار اليمين الفاشي (أقلية غرب أوكرانيا) لإقناع الرأي العام أن قواتهم في مهمة محددة لحماية الأقلية الروسية من «النازيين الجدد» وليست غزواً شاملاً لأوكرانيا.
ويضطر المعلق المحايد لمتابعة منصات مستقلة (كتلفزيون «بلومبرغ» لتركيزه على معلومات دقيقة محددة، فجمهوره المستثمرون والبنوك والأعمال، أو التلفزيون الياباني والصيني الخدمة الإنجليزية). إرهاق المتابعة دفعني للسخرية مع الزملاء من زيادة أعباء العمل في الأيام الأولى من حرب تبدو بعيدة جغرافياً، لكنها أصبحت محرك جدول العمل اليومي في قلب وستمنستر حتى ساعة كتابة هذه السطور.
«عند إعلان الحرب، تكون الحقيقة أول ضحية»، وضعها بونسونبي في كتابه الصادر في 1928 «التزييف في زمن الحرب: أكاذيب البروباغندا خلال الحرب العظمى»، والذي أصبح أحد أهم المصادر في دراسة البروباغندا السياسية، والأساليب التي يوظفها كل طرف لإقناع الرأي العام الداخلي بأن الوطن يخوض معركة تاريخية على جانب الحق، والخصم يتربص بهم على ضفة الباطل.
واليوم لم يتغير الحال عن ملاحظات بونسونبي منذ قرن، فقط ما تغير وسائل بث الرسالة واتساع دوائر متلقيها من رأي عام محلي، وخارجي، أو عالمي سواء لدى الخصوم، أو الحلفاء. لا جديد تحت الشمس؛ في الواقع أول من كتب عن ضياع الحقيقة في زمن الحرب، كان الدكتور جونسون، الذي سبق السيناتور جونسون بمائة وستين عاماً. ففي 1758 كتب المؤرخ الإنجليزي، ومدون وقائع القرن الثامن عشر صامويل جونسون (1709 - 1784) «من مصائب الحرب المتعددة، انكماش محبة معرفة الحقيقة بسبب التزييف المبرر بالمصلحة المعلنة، والمدعومة من سذاجة المتلقي». كتبها في تقرير في «ذي إيدلر» (وتعني الخامل، وأيضاً حلقة معدنية لتوجيه حزام السروال). ذي إيدلر مسلسل نشر في الأسبوعية اللندنية «يونيفرسال كرونيكل» (الوقائع العمومية) من 130 تقريراً، ما بين عامي 1758 و1760، كملاحظات فلسفية أخلاقية للوقائع السياسية والاجتماعية. كان جونسون من الإصلاحيين، ومعلقاً أثناء حرب السنوات السبع (1756 - 1763) بين القوى الأوروبية: روسيا، وفرنسا والنمسا، وساكسونيا، والسويد، في جانب؛ ضد تحالف بروسيا، وبريطانيا، وهانوفر.
بونسونبي استخدم تعبير «التزييف» falsehood (الأخبار الكاذبة بلغة اليوم)، الذي صكه صامويل جونسون قبله بـ170 عاماً.
ومثل مواطنه جونسون، كان بونسونبي رافضاً أصلاً، من منطلق أخلاقي، للحرب كأسلوب في السياسة الخارجية.
وكنائب في مجلس العموم، عارض بونسونبي، دخول بريطانيا الحرب العالمية الأولى في 1914. وتسبب استمرار معارضته للحرب في خسارته مقعده البرلماني في انتخابات 1918 (خاضها «كديمقراطي مستقل» وليس عن حزبه الليبرالي)، ثم انتخب في 1922 عن حزب العمال (دائرة طبقة عاملة جديدة في شيفيلد الصناعية)، وأصبح السكرتير البرلماني لوزارة الخارجية والمستعمرات في أول حكومة عمالية في بريطانيا عام 1924 (قصيرة الأجل لتسعة أشهر فقط) بزعامة رامزي مكدونالد (1866 - 1937). ونشر كتابه عن تزييف بروباغندا الحرب عندما كان في المعارضة (لم يعد العمال للحكم إلا في 1929).
السيناتور جونسون، الذي تزامن بين الرجلين، كان ليبرالياً إصلاحياً، وسياسياً واجتماعياً، وخاض في 1912 الحملة الرئاسية للرئيس تيودور روزفلت (1858 - 1919) كنائب له في برنامج «تقدمي». عارض السيناتور جونسون معاهدة فيرساي في 1919 (اعتبر كثيرون موادها سبباً في خلق شعور كجمر التهب في صدور الألمان فأدى لصعود التيار القومي النازي، فالحرب الثانية 1939 - 1945)، وعارض تأسيس عصبة الأمم في مؤتمر باريس للسلام في 1920 (حلت في 1946)، وعارض ميثاق الأمم المتحدة (وقع في 1945).
ليبرالي بفلسفته «خلينا في حالنا» فالتورط في مشاكل الغير يقود، آجلاً أو لاحقاً، إلى الحرب، التي رفضها، أخلاقياً وإنسانياً، كسابقه الدكتور جونسون ولاحقه بونسونبي.