عمر أنهون
TT

الصدمة الأوكرانية وضياع الردع الغربي

استمر صدى الأزمة الأوكرانية يتردد في أرجاء العالم لبعض الوقت، مع تواتر الأنباء عن الجهود المبذولة لمنع المزيد من التصعيد، إلى أن جاء اعتراف الرئيس فلاديمير بوتين بجمهورية دونيتسك الشعبية المعلنة من جانب واحد وكذلك جمهورية لوغانسك الشعبية، لينقل الأزمة إلى مرحلة جديدة.
وبعد يوم واحد، اتخذ بوتين خطوة أخرى معلناً بدء «عمليات عسكرية خاصة» في أوكرانيا، حيث استهدف المدن بالصواريخ والقصف الجوي. وورد أن الجنود الروس انتقلوا إلى أوكرانيا من نقاط عدة، بما في ذلك روسيا البيضاء وشبه جزيرة القرم، واستمر القتال الذي تسبب في فرار آلاف الأشخاص. عاش العالم حالة صدمة جرّاء ما وصفه الرئيس الأميركي جو بايدن بالاعتداء المتهور وغير المبرر، لكنّ الكثيرين منّا حول العالم اعتقدوا أنه سيكون هناك نوع من التهدئة بعد اعتراف روسيا بالجمهوريتين المنشقتين.
ما اللعبة الروسية؟ قد ينظر البعض إلى تحركات بوتين على أنها عبقرية وشجاعة، لكن بالنسبة لغالبية الناس فإنهم يرونها جنوناً وحماقة. ما اللعبة الروسية إذاً؟
إن الاستيلاء على دولة بأكملها، يبلغ عدد سكانها نحو 40 مليون شخص، بمساعدة عسكرية خارجية وجيش محصّن، ليس كالاستيلاء على المناطق التي تهيمن عليها الأقلية الروسية. لن يكون غزو أوكرانيا مستداماً وسيكون هزيمة ذاتية لروسيا.
قد يكون من بين أهداف روسيا شل أوكرانيا، وقتل روحها القتالية، وتأمين منطقة دونباس (أياً كانت حدودها) وعزل أوكرانيا عن البحر الأسود، وإسقاط الحكومة، لتمهيد الطريق لحكومة موالية لروسيا.
لطالما كان توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) باتجاه الشرق وتهديد أمنه حجة مستمرة، حيث ذكر بوتين أن أوكرانيا تحولت إلى دولة معادية لروسيا تستضيف على أراضيها أسلحة الغرب، كما ألقى باللائمة على الغرب في الكذب المستمر ومحاولة خداع روسيا. قد يكون هناك شيء من الحقيقة في بعض أو ربما كل ما ورد من ادعاءات. لكن بشكل عام، فإن الدافع وراء استراتيجية روسيا وأفعالها شيء آخر. فروسيا عجزت عن التعامل مع انهيار الاتحاد السوفياتي وما ترتّب عليه من عواقب، ولم تكن قادرة على استيعاب فقدان قوتها الخارقة.
في تسعينات القرن الماضي وبداية عام 2000 لم تكن روسيا قادرة على فعل الكثير ضد تشكيل الغرب للنظام العالمي الجديد. لكن الآن الأمور مختلفة. فالجيش في حالة جيدة، ويمتلك قدرات عسكرية فعالة للغاية وقيادة قوية، وروسيا واثقة من قدرتها الاقتصادية على تحمل أي صعوبات ومواجهتها.
يجب أن تفكر روسيا في عهد بوتين بنفسها وهي تصحح ما أشار إليه بـ«أعظم كارثة جيوسياسية في القرن» وهي انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث تقوم روسيا الآن بتصميم محيطها الخارجي لتشكيل نظام عالمي جديد، يبني بوتين من خلاله إمبراطوريته.
كانت الأقلية الروسية في الدول المستقلة حديثاً، والتي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي حتى عام 1990، أدوات رئيسية لبوتين في تحقيق طموحاته. وعلى مر القرون، خلال زمن القياصرة ولاحقاً السوفيات، استقر العِرق الروسي في الأراضي المحتلة وطرد السكان المحليين، وأكملت عمليات النقل القسري للسكان ما بدأته في زمن روسيا القيصرية. كان التتار القرم والشركس وغيرهم من بين الضحايا الرئيسيين لهذه السياسات، حيث لقي مئات الآلاف حتفهم خلال هذه العملية.
منذ عام 1990، سقطت ترانسنستريا وأبازيا وجنوب أويتيا وشبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوغانسك تحت سيطرة روسيا الواحدة تلو الأخرى.
يذكّرني ما يحدث بما جرى لأنشيلوس وضم سوديتنلاند ثم مدها لتشيكوسلوفاكيا بأكملها لاحقاً. بوتين الآن، بأساليبه ووسائله، يشبه ذلك الشخص الذي أصدر الأوامر ذاتها عام 1938. قبل أيام قليلة فقط، قال بوتين إن روسيا ليست لديها نية لغزو أوكرانيا، وهو ما حدث في ميونيخ عام 1938.
في غضون ذلك، تنسحب الولايات المتحدة بطريقة أنانية ومدمرة للغاية. لنتذكر ما حدث في العراق وسوريا، وما حدث مؤخراً في أفغانستان. كل هذا وأكثر خلق بعض مشكلات الثقة الخطيرة للغاية مع الولايات المتحدة.
الاتحاد الأوروبي ميؤوس منه بشدة في ظل وجود الكثير من المصالح المختلفة والقادة الطموحين ذوي القدرات المحدودة، وسط الافتقار إلى السياسات المشتركة الهادفة بما في ذلك في مجال الدفاع.
لقد كان الأوكرانيون صريحين للغاية، وبصوت عالٍ، بشأن محاولتهم الانضمام إلى عضوية «الناتو». فقد شجع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والغرب بشكل عام، أوكرانيا بطرق مختلفة. فأوكرانيا التي كانت سعيدة فقط بالتشجيع باتت تعاني الآن من العواقب.
هل يمكن لحلف «الناتو» التدخل؟ على الرغم من الكثير من الإشكاليات، فإن «الناتو» هو أقوى منظمة سياسية عسكرية في العالم مستعدة وجاهزة لمواجهة التهديدات. فقد أوضح بايدن والأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، منذ البداية أن أوكرانيا قد تكون شريكاً ولكنها ليست عضواً في «الناتو»، وبالتالي، فإن أي عدوان على أوكرانيا لن تغطيه المادة الخامسة من الوثيقة التأسيسية لحلف شمال الأطلسي (معاهدة واشنطن).
مبدأ الدفاع الجماعي مكرس في هذه المادة، وهو يعني أن الهجوم على حليف واحد يعد هجوماً على جميع الحلفاء. كانت المرة الأولى والأخيرة التي جرى فيها الاحتجاج بالاستعانة بالمادة الخامسة في تاريخ «الناتو» عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الإرهابية ضد الولايات المتحدة.
إن ما فعله «الناتو» في عدة مناسبات مختلفة سابقاً قد تم اتخاذه كإجراء دفاعي جماعي، مثل التعامل مع الوضع في سوريا. لكن هذا يختلف عن المادة الخامسة ولا ينطبق أيضاً على أوكرانيا نفسها.
باختصار، أوكرانيا تحظى بدعم الغرب، فقد تلقت وستواصل تلقي المساعدة للدفاع عن النفس، لكنها لا تندرج تحت مظلة «الناتو» الوقائية. من ناحية أخرى، إذا امتدت هذه الأزمة بطريقة ما إلى دولة عضو في «الناتو»، في إطار المادة الخامسة، فسيستجيب الحلف.
هل يمكن للعقوبات أن تغيّر مجرى الأحداث؟ تبدو العقوبات التي تتدفق من الغرب جيدة ومثيرة للإعجاب على الورق. لكن مدى فاعليتها ومدى استمرارها سيعتمد على عدد من العوامل.
العقوبات أحادية الجانب تؤثر على كلا الجانبين. فمع مرور الوقت، قد تتضرر أيضاً تلك الدول التي فرضت عقوبات، حيث يجري تفعيل الاقتصادات الموازية وطرق التهرب من العقوبات عاجلاً أم آجلاً.
ومن العوامل الأخرى التي يجب أخذها في الاعتبار مدى استعداد الدول للاستمرار في فرض العقوبات، ومدى استعداد روسيا للبقاء تحت العقوبات وما إذا كانت قادرة على إيجاد بدائل.
تمتلك روسيا موارد الطاقة كسلاح، حيث يأتي ما يقرب من 40% من واردات أوروبا من الغاز الطبيعي من روسيا. وستتعرض أوروبا لضربة من ارتفاع الأسعار ونقص الإمدادات. ومن ناحية أخرى، ستخسر روسيا أيضاً إذا لم تتمكن من بيع غازها الطبيعي.
ومن أجل تقليل الآثار السلبية للاضطرابات في صادرات الغاز الطبيعي إلى أوروبا، سعت روسيا إلى بدائل. وهنا يأتي دور الصين. فقد وقّعت الدولتان مؤخراً اتفاقية جديدة بشأن زيادة صادرات الغاز الطبيعي الروسي إلى الصين. وأدت السياسات الأميركية ضد الصين وروسيا إلى تقريب هذين البلدين لبعض الوقت الآن.
وأوضح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية مرة أخرى معارضة الصين للعقوبات الأحادية الجانب. في عام 2021 بلغ حجم التجارة بين البلدين نحو 146 مليار دولار، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 36% مقارنةً بالعام السابق.
انتهكت روسيا وحدة أراضي دولة عضو في الأمم المتحدة واستخدمت القوة العسكرية لغزو أراضيها، ويجب ألا يُسمح لها بالإفلات مما تفعله. إن أسباب روسيا لتبرير أفعالها هي في الغالب ستار من الدخان، ولذلك يعمل بوتين على إعادة تشكيل دول الجوار بالقوة العسكرية.
إن فكرة أنه «إذا كان هذا هو ما يحدث للأكبر والأقوى، فتخيل ما يمكن أن يحدث للآخرين»، يجب أن تكون هي السائدة بين المسؤولين والشعوب في الجمهوريات السوفياتية السابقة.
إنه ليوم حزين للأمم المتحدة. فقد كشفت المداولات هناك ودعوات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش اليائسة مرة أخرى كيف أن المنظمة غير فعالة، بل عديمة الجدوى، وقد تكون المنظمة الأممية تعيش أياماً بائسة.
كان ينبغي للوضع في أوكرانيا تذكير الجميع بأنه عندما يضعف الردع يضعف الأمن، وعندما يضيع الردع يضيع الأمن. يمكن أن ينتقل هذا الوضع من سيئ للغاية إلى كارثة. ولذلك، فما نأمله هو وضع حد فوري للأعمال العدائية والانسحاب من الأراضي الأوكرانية واستئناف الجهود الدبلوماسية.
- خاص بـ«الشرق الأوسط»