د. ياسر عبد العزيز
TT

في مباراة الاتصال... واحد روسيا ـ صفر أميركا

لا تحتاج الأزمة الأوكرانية إلى جهد لتوضيح مدى أهميتها وانعكاساتها الخطيرة على السلم والأمن الدوليين، وهي تحظى بالقدر الواجب من الاهتمام على المستويات كافة، لكنّ كثيرين ركزوا جلَّ هذا الاهتمام على تفسير مواقف الطرفين الروسي والأميركي خلالها، واستشراف نيات كل منهما، وتوقُّع المغارم والتكاليف في حال اندلاع الصدام، فيما غاب -إلى حد كبير- الاهتمام بالجانب الاتصالي فيها؛ وهو جانب مثير ومشوق بدرجة كبيرة.
يُعد الاتصال السياسي حقلاً معرفياً ذا درجة من الأهمية كبيرة ضمن علوم الاتصال؛ وقد تطور كثيراً في العقود الأخيرة، خصوصاً مع التصاعد المُطّرد في دور وسائل الإعلام «التقليدية»، وما تلاه من تطور مذهل في عهد «السوشيال ميديا»، التي أظهرت بدورها طاقة هائلة وقدرة فائقة على خدمة أغراض المُتصلين، وتعزيز أثر رسائلهم.
وبعيداً عن تحليل طبيعة الأزمة التي تجذب أنظار الناس حول العالم وتشد أعصابهم وتشغل مساحة ليست قليلة من اهتمامهم، ومن دون التركيز على المآلات المتوقَّعة لها في حال وصلت إلى لحظة الانفجار، أو الانشغال بالتقييم السياسي أو الأخلاقي لذرائع أطرافها، ستركز هذه السطور على الطريقة التي أدار بها الطرفان المتصارعان الرئيسيان (روسيا والولايات المتحدة) تلك الأزمة في الإعلام، وعلى النهج الاتصالي الذي اتّبعه كلاهما، قبل أن تُقيّم عوائد هذا النهج وتكاليفه.
ببساطة شديدة، اتبعتْ الولايات المتحدة استراتيجية اتصالية يمكن تسميتها «استراتيجية الأضواء الساطعة»؛ وقد اختارت هذا النهج لأنه يتناسب مع الإمكانيات الاتصالية التي تمتلكها؛ وقوامها منظومة إعلامية ضخمة وقادرة ونافذة وذات صدى مدوٍ وتأثير جبار.
وعبر تلك المنظومة الضخمة، ستُذيع الولايات المتحدة معلومات «سرّيّة» عن تحركات واستعدادات روسية تجاه الحدود الأوكرانية، وستُفرط في عرض ذرائع الغزو التي ستنسبها لموسكو، وسيضحى الأمر كأنه «عرض استخباراتي على الهواء»، تُعلن فيه المعلومات المُصنفة على العامة، ويُستنفر خلاله الحس الجمعي العالمي إزاء «روسيا الشريرة الصلفة التي تستبيح أوكرانيا الصغيرة الطيبة، لتكريس عظمة (القيصر بوتين)، واستعراض العضلات في قارة أوروبا».
سيجري تنسيق الجهد الاستراتيجي الذي سيتوزع على القادة والمسؤولين الأميركيين، بدءاً من الرئيس جو بايدن نفسه حتى أصغر مسؤول في وحدات الاتصال التابعة للوزارات المعنية، وستنخرط في الاستراتيجية مئات من مراكز البحوث ومستودعات التفكير المعنية بالسياسة والأمن العالميين، وآلاف من وسائل الإعلام في الغرب وخارجه ستُعيد بدورها نقل الرسالة ذاتها، وستُضيف إليها التحليلات والتحذيرات، ثم ملايين الحسابات النشطة على مواقع «السوشيال ميديا»، التي ستستخدم وسائل إبراز موحية وجذابة.
وستكون النتيجة مُرضية؛ إذ ستُسلط الأضواء الساطعة على «المجرم الروسي» قبل «ارتكاب الجريمة»، وهو بدوره سيرتبك وستتخبط خطواته؛ إذ تم تعيين نطاق الجرم، وإصدار أحكام الإدانة قبل «وقوع الجريمة».
ماذا يفعل الروسي؟ هل يقْدم على الغزو، فيُسوِّغ الاستراتيجية الاتصالية الأميركية، ويُقر أمام العالم بنجاعتها، ويضيف إلى ذلك اعترافاً بقدرتها ومهاراتها الاستشرافية، أم يقوّضها تماماً، فيتفادى الخيار العسكري المباشر، ويكون بذلك قد هُزم من خصم لم يُطلق رصاصة أو يحشد جنوداً، بامتثاله الطوعي لإرادته؟
لقد فعل الروسي شيئاً مختلفاً؛ إذ واجه «الأضواء الساطعة» بـ«سلاح السخرية»، وسنعرف لاحقاً أن هذا السلاح بالذات يُعد إحدى أدوات استراتيجية «الغموض البنّاء»، وهي الاستراتيجية التي اتّبعها الروس في إدارتهم لتلك الأزمة العالمية اتصالياً.
اتفق الروس على هذا النهج إذاً... «الغموض البنّاء». فهم لن يعطوا تصريحات يُفهم منها أن خيار الحرب مُستبعد تماماً، أو أن تدخلاً عسكرياً سيقع أم لا، لكنهم فقط سيقولون كلاماً متضارباً، وسيتركون الأمور غارقة في الغموض، الذي سيضحى بناءً بامتلاكهم القدرة على تحديد الخطوة المقبلة، واتخاذ القرار الذي يناسبهم وفي الوقت المناسب.
وستكون «السخرية» أداة هذا النهج السحرية. سيتفق وزير الخارجية والمتحدثون الرسميون وقادة الجيش وبعض الوزراء على اتباع هذا المنحى الساخر، وسيكرسون جميعاً الغموض والاستهانة؛ فتظهر روسيا في موضع «الثابت المُتحكم وهادئ الأعصاب»، ويظهر الجانب الآخر متخبطاً في «الأضاليل والهستيريا».
لا يجب توجيه اللوم إلى الأميركيين، لأن استراتيجيتهم كانت بالفعل حاذقة، والأهم أنها بدت متّسقة مع قدراتهم الاتصالية الضخمة والنافذة، وكثيراً ما نجحت في تحقيق الاختراق.
لكنّ الروس، في إدارتهم الاتصالية لتلك الأزمة، يستحقون الإعجاب؛ فهم مثل تاجر شاطر لا يمتلك رأس مال كبيراً ولا سمعة حسنة، لكنه مع ذلك استطاع أن يحقق أرباحاً ضخمة، فمن خلال نهج «الغموض البناء»، وأداته البارعة «السخرية»، ربحوا تلك الجولة الاتصالية. والنتيجة في مباراة الاتصال: واحد روسيا - صفر أميركا.