ما زالت دعوة القيادة الفلسطينية لعقد اجتماع للمجلس المركزي تثير جدلاً ساخناً في الساحة الفلسطينية، إذ بات من الواضح أن هذه الجلسة بصورة خاصة ليست مجرد دورة لملء فراغات التنفيذية أو رئاسة الوطني، بقدر ما هي مغامرة للقفز في مجهول مرحلة جديدة يتم التخلص فيها من أثقال الطابع الائتلافي للمنظمة كقيادة لمرحلة التحرر الوطني، لتحولها بصورة كاملة لمجرد هيئة فارغة من مضمونها، وتعطي هذه المرة صلاحياتها لسلطة مستعدة للتكيف الكامل مع الرؤية التي لا ترى إمكانية لتسوية سياسية في المدى المنظور، ولكنها ليست فقط تتعايش مع فتات ما يقدمه الاحتلال، بل تحاول إدامته ومنع تغييره، الأمر الذي بات يفتح باب الصراع على التمثيل، معركة طاحنة متعددة الأبعاد، بما فيها على مؤسسات المنظمة، وليست فقط السلطة، بديلاً لدورها الوطني ومكانتها الجامعة باعتبارها من المفترض أن تكون الخيمة التي تضم جميع الأطراف الفلسطينية لتكون معبراً حقيقياً لتطلعات شعبنا، وممثلاً وحيداً له.
ويزيد من مخاطر هذا الاجتماع، أن الاندفاع نحو عقده من دون اكتراث للمواقف السياسية للأطراف الأخرى وأغلبية أعضاء الوطني، يتسارع في وقت سحب فيه التداول عما كان يسمى «مهلة السنة» ومجمل القرارات التي سبق أن اتخذها «المركزي» بخصوص مستقبل العلاقة مع إسرائيل، ويجري الحديث عن أن «المركزي» سيد نفسه، وبما يشي بتحولات مرحلة جديدة تبدو قاتمة، تؤكدها السياسة التي تجري ممارستها يومياً على الأرض بهذا الخصوص.
في المواقف المعلنة يُظهر الجميع، بما في ذلك طرفا الانقسام المهيمنان على المشهد العام، حرصاً لفظياً على إنهاء الانقسام، خلافاً لما يمارسانه على الأرض، وهذه المرة تُحث الخُطا نحو عقد المركزي بلا أي رؤية سياسية محددة حول متطلبات مواجهة مرحلة الإفلات الإسرائيلي المطلق من استحقاقات ما كان يسمى «عملية سياسية»، أو ما كان يُطلق عليه «حل الدولتين»، وبات الهدف الوحيد الذي تلهث خلفه القيادة الرسمية هو مجرد لقاء يحرص الجانب الإسرائيلي، بعد انفضاضه، على التأكيد أنه اقتصر على تعزيز ما يسمى «التنسيق الأمني»، الذي بات أيضاً عملاً يقتصر على حماية الأمن الإسرائيلي بدون اكتراث لأمن الفلسطينيين الذين يتعرضون للقتل وهدم منازلهم، ولشتى أنواع الاعتداءات على يد إرهاب المستوطنين.
وتأتي هذه الدعوة في سباق محموم مع الزمن، بلا اكتراث لما يمكن تسميته «حوارات الجزائر الاستكشافية»، التي للأسف ذهب إليها طرفا الانقسام، ليس للبحث عن القواسم المشتركة التي تفرضها خطورة اللحظة السياسية، بقدر ما هي استمرار للنهج ذاته، في الإصرار على البحث عن نقاط تمكن كل طرف من تحميل الطرف الآخر مسؤولية الفشل.
هنا يبرز سؤال جوهري؛ إذا كان عقد المجلس المركزي ليس محطة لتتويج جهود استعادة الوحدة، أو فرصة للحوار إزاء سبل الخروج من عنق زجاجة الأزمة المركبة، الوطنية والسياسية، فماذا يُخفي القائمون لاستعجال انعقاده من أهداف؟! وهم يدركون غير آبهين بما يجري في خندق الاصطفافات المقابلة، بل يستكملون ترتيبات تقسيم «الكعكة» للإمساك بكل تلابيب المشهد العام، حد المغامرة هذه المرة بمكانة منظمة التحرير ذاتها، التي انحدرت وتهاوت في السنوات الأخيرة، حيث لم يتبقَّ منها سوى شرعية الاعتراف الذهبي «بحق إسرائيل في الوجود بأمن وسلام»، كما وثّقتها رسائل الاعتراف المتبادلة، وهو ما قد يفتح أبواب الانفلات للصراع على السلطة، سيما في ظل الإصرار على الفك والتركيب، والتغييب المطلق لخيار الانتخابات الشاملة عبر صندوق الاقتراع، وما يتطلبه من خريطة طريق توافقية باتت معروفة، ويستمر الإصرار على إدارة الظهر لها.
يبدو أن ما يجري من فك وتركيب للمنظمة ومؤسساتها، من ائتلاف جبهوي عريض لقيادة النضال الوطني التحرري إلى مجرد حالة تضم مجموعة من الموالين لسياسات يعلن حتى أصحابها أنها فشلت، بل ماتت وشبعت موتاً، وباتت عودة الروح لجثتها أقصى طموح أصحابها؛ وقد كان ذلك واضحاً للعيان عندما تم تحويل «المركزي» من هيئة وسيطة لمتابعة مدى التزام اللجنة التنفيذية بتنفيذ قرارات المجلس الوطني، إلى «هيئة» بصلاحيات الوطني، وهذا ما تم تمريره بخفة استهدفت تقاليد عمل المنظمة واللوائح التي تنظمه. فإذا كان من حق «المركزي» استكمال انتخاب أعضاء تنفيذيين جدد من «المركزي»، فماذا بشأن الحق المتساوي لأعضاء الوطني الآخرين في الترشح لهذه المواقع الشاغرة؟ والأمر ذاته بالنسبة لانتخاب رئاسة الوطني من «المركزي»، سيما من المستقلين والذين سبق أن كانت رئاسة المجلس الوطني تقتصر على أحدهم، الأمر الذي يؤكد أن هذا يعني إلغاء المجلس الوطني، تمهيداً للانقلاب الشامل على المنظمة. ولذلك جرى إعادة تركيب «المركزي» الذي كانت دوماً أغلبيته من شخصيات وطنية مستقلة مركزية وممثلين عن القوى والاتحادات الشعبية، وتم إغراقه بعناصر جديدة رصيدها الوحيد هو «الموالاة»؛ بل فإن بعضهم تم إدخاله للوطني في جلسته الأخيرة لهذا الغرض. يبدو أن «المركزي» القادم يعقد لاستكمال هذا الانقلاب على تاريخ المنظمة وطابعها الائتلافي، وربما يعرضها لخطر التشظي، ليفتح باب تكريس الانقسام على مصراعيه، بما في ذلك استكمال الوجه الآخر لعملية شطب المنظمة باندفاع الآخرين نحو عقد مجلس وطني بديل أو «إنقاذي»، سيما أن واقع ومكانة ودور السلطة الوطنية يتدهور يومياً نحو الانهيار، ليبدأ فصل جديد للصراع على الشرعية مضمونه الحقيقي «الوكالة الأمنية القادمة لمن؟!».
إن معالجة الأزمة الوطنية تتطلب الإقرار بالأسباب السياسية والتنظيمية والإدارية التي ولدتها، والقيام بمراجعة شاملة للمرحلة السابقة، خاصة لبرنامج مفاوضات التسوية، أو خيارات «حماس» العسكرية، وما ألحقاه من ضرر على قضية شعبنا، واعتماد استراتيجية صمود سياسية وميدانية طويلة الأمد، وما تتطلبه من وحدة وطنية، وتصدٍّ جاد لكل أشكال الفساد السياسي والمالي والإداري، ولكل ما له علاقة بتبديد الموارد وإقصاء المناضلين والكفاءات على حد سواء؛ فالتفرد والإقصاء والرغبة الدائمة في المحاصصات الفئوية هي التي أوصلتنا لما نحن عليه، وهي التي مكنت حكومات الاحتلال من تحقيق اختراقات كارثية نحو هدفها الاستراتيجي لتصفية حقوق شعبنا. وهذا ما يتطلب المكاشفة به، والاعتذار لشعبنا عنه، وليس ركوب المصالح الشخصية والفئوية الضيقة، والتمادي في المضي نحو الكارثة.
8:18 دقيقه
TT
عقد «مركزي المنظمة» مغامرة نحو مزيد من التشظي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة