ممدوح المهيني
إعلامي وكاتب سعودي. مدير قناتي «العربية» و«الحدث» كتب في العديد من الصحف السعودية المحلية منها جريدة الرياض، ومجلة «المجلة» الصادرة في لندن. كما عمل مراسلاً لـ«الشرق الأوسط» في واشنطن. وهو خريج جامعة جورج ميسون بالولايات المتحدة.
TT

انتقام سائق التاكسي بوتين!

سُئل وزير الخارجية الأميركي الأشهر هنري كيسنجر بعد أن تجاوز التسعين من العمر عن القضية الأكبر التي تقلقه في الليل. لم يتردد في الجواب «أخشى من الصين، أخشى أننا لا نستطيع أن نُدخل الصين في النظام الدولي العالمي». الخبر السيئ الآن أنه ليس الصين من تريد الخروج من النظام العالمي الليبرالي ولكن أيضاً روسيا.
للدقة، القول، إن هاتين القوتين تعرضتا للإقصاء منذ البداية ولم يتم استشارتهما عندما وُضعت الأسس لهذا النظام المصنوع بطريقة تناسب التحالف الأميركي - الأوروبي. إنه ثأر تاريخي له ما يبرره وقد عبّر عنه الرئيس بوتين عندما أعلن أكثر من مرة عن موت النظام الليبرالي. لقد جعل منه سائق تاكسي، قال مؤخراً متذكراً الذكرى المريرة الجارحة للكبرياء الروسية ولكبريائه الشخصية.
المشهد الأكثر وضوحاً لهذا الصراع الكبير ما يحدث في أوكرانيا. في مقال موسع بصحيفة «فاينانشال تايمز» بعنوان «خطة روسيا والصين لنظام عالمي جديد»، يشرح الرغبة الروسية والصينية الآن للخلاص بشكل نهائي من الهيمنة الأميركية الخانقة منذ عقود. لأول مرة نشهد هذا التحالف بين بوتين وشي جينبينغ الذي أزاح جميع الخلافات بينهما لمواجهة العدو الأوحد الليبرالي.
يتفق القائدان في موسكو وبكين على أن الهدف النهائي للغرب هو الإطاحة بحكومتيهما من خلال استخدام مبادئ مثل حقوق الإنسان والديمقراطية. إنها، كما يعتقدان، الخنجر المسموم الذي سيدمي نظاميهما حتى الموت. ورغم أن دورهما كان في السابق دعم الحركات الثورية حول العالم، فإن دورهما حالياً يقتصر على إجهاض الثورات الملونة التي تندلع في أوكرانيا وتايوان وهونغ كونغ، وغيرها من الدول المحيطة بهما.
نظريتهما: أنها ثورات، تحرك بأيادٍ أميركية - أوروبية خفية؛ ولهذا يجب الإجهاز عليها بسرعة وعدم السماح لها بالنهوض من جديد. كازاخستان مثال آخر على هذا الدور الدفاعي، حيث تدخلت روسيا بطريقة حاسمة. تتفق روسيا والصين على هذه النظرية وتدركان أن السماح لأوكرانيا بالذهاب بسهولة للغرب، يعني أن تايوان ستكون القادمة.
أوكرانيا وتايوان غير مهمتين بحد ذاتهما، لكن خسارتهما أمر كارثي، تعني توسع النظام الليبرالي الغربي على حسابهما؛ ما يعني تآكل نفوذهما وقوتهما. ولهذا؛ ليس من الغريب أن يحشد بوتين 100 ألف جندي على حدود جارته أوكرانيا، ويهدد إذا انضمت للناتو بغزوها، وكذلك اللهجة الصينية الغاضبة رداً على أي تصريحات غربية بدعم تايوان.
إن الصراع الآن يشبه المشي على حافة الهاوية، ولكنه سيشكل صورة العالم في العقود القادمة. صعود الولايات المتحدة كان بعد الحرب العالمية الثانية، وحينها تأسست كل المؤسسات الدولية؛ من البنك الدولي إلى التجارة العالمية التي تنسجم مع رؤيتها الجديدة للعالم. يرى الرئيس بوتين، أن هيمنة الولايات المتحدة زادت بشكل أكبر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأول ملامح هذا التفرد بالقوة هو حرب تحرير الكويت عندما جمعت أميركا العديد من القوى في صفها من دون معارضة من أحد. رأينا بعد ذلك التدخلات الفردية في كوسوفو وبلغراد والعراق، وغيرها من الدول حتى غزو أفغانستان والعراق الذي شكّل الصورة الأوضح لوجود قوة عالمية واحدة. قطب واحد فقط يشكل العالم على صورته الليبرالية ويستخدم - بحسب الروس والصينيين - حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية ذرائع للتدخل العسكري إذا لزم الأمر.
الخروج المذل من أفغانستان والانسحاب من العراق، رآه أعداء واشنطن البدايات لتآكل النظام الأميركي؛ ولهذا يجب فرض أنظمة جديدة وإعادة الأقطاب من جديد على المسرح الدولي. ستستخدم القوة العارية لإجهاض أي تحركات مشبوهة وستزيد من قدراتها العسكرية، كما تفعل الصين في بحر الصين الجنوبي الذي أسست فيه العديد من القواعد العسكرية.
شكل النظام الجديد المرغوب من موسكو وبكين هو أن يتم تقسيم العالم لمناطق نفوذ لكل قوة لا يجب المساس بها. من الضرورة إزاحة الولايات المتحدة إلى منطقة نفوذها الخاصة، وجعلها قوة أطلسية فقط. نرى ذلك في اللجوء إلى القوة، ولكن أيضاً في الأفكار، الأنظمة العالمية تقوم أيضاً على أفكار سياسية وثقافية يمكن تسويقها. الغربيون يتحدثون عن حقوق الإنسان ولكنّ الروس والصينيين يتحدثون عن ثقافات أو حضارات تتطور من تلقاء نفسها لها سياقاتها المختلفة ولا يمكن أن تُفرض عليها أجندات خارجية بغرض زعزعتها.
السؤال هل تستطيع روسيا أن تفعل ذلك؟ أي تحدي النظام الحالي وخلق نظام متماسك خاص بها. من المشكوك فيه بحكم حجم الاقتصاد الروسي المقارب للاقتصاد الإيطالي؛ لهذا لا تملك القدرات القادرة على زرع نظام وحمايته واستدامته. ولكنها تستطيع فعل ذلك بالتحالف مع الصين التي تتفق معها نظرياً وسياسياً وعسكرياً في هدف واحد، وهو تحجيم النفوذ الأميركي وإنهاء فكرة القطب الواحد.
عدد سكان الصين يتجاوز الـ1.4 مليار وقريباً ستكون الاقتصاد الأكبر عالمياً وقوتها العسكرية متصاعدة بلا هوادة. وبالمقارنة بينهما، فإن روسيا تعمل على ردات فعل على المضايقات الغربية وتريد أن تظهر بصورة قوة عظمى رغم محدودية قدراتها، على عكس الصين التي تعمل بطريقة استراتيجية موسعة، بطيئة وثابتة من دون تدخلات عسكرية مفاجئة، وتدرك أن التاريخ يسير في صالحها في النهاية. كل هذه المؤشرات تقول، إن العالم في السنوات والعقود القادمة سيدخل في صراعات كبرى بين هذه القوى لمد نفوذها وفرض هيمنتها على العالم. أما أمنية كيسنجر بإدماج الصين بالنظام العالمي الغربي فقد فات أوانها.