داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

«الإنتربول»... مؤسسة أمنية على رصيف السياسة

نسمع كثيراً عن «الإنتربول»، وهي منظمة «غير شعبية» لأن علاقاتها ليست مع الأفراد أو المواطنين في دول العالم، وإنما مع الحكومات وأجهزة الشرطة في 195 دولة، إلا إذا ألقت القبض على مطلوبين هاربين، وتتولى تسليمهم إلى حكوماتهم بعد اطلاعها على جرائمهم واقتناعها بقانونية التهم وسلامة التحقيقات. هذه المنظمة المهمة بدأت استعداداتها للاحتفال بمرور قرن كامل على تأسيسها. وكلمة «الإنتربول» هي ملخص الاسم الرسمي للمنظمة الدولية للشرطة الجنائية التي تأسست في عام 1923 في فيينا عاصمة النمسا التي غنت لها المطربة الراحلة أسمهان أغنيتها الشهيرة «ليالي الأنس». لكن مقرها الحالي هو مدينة ليون في فرنسا. وتنص المادة 3 في القانون الأساسي للمنظمة على حظر أي نشاط لها أو تدخل في مسائل أو شؤون ذات طابع سياسي أو عسكري أو ديني أو عنصري.
هناك ثماني دول فقط غير أعضاء في منظمة «الإنتربول»، وهي جزيرة ساموا في المحيط الهادي، وجمهورية بالاو في المحيط الهادي أيضاً شرق الفيلبين، وجزر سولومون أو جزر سليمان، وهي تقع كذلك في المحيط الهادي وتتكون من 990 جزيرة، وجزيرة كيريبا في المحيط الهادي وتتكون من 32 جزيرة مرجانية، وميكرونيزيا وهي في المحيط نفسه، وتتكون من آلاف الجزر الصغيرة، وتوفالو وتتكون من جزيرتين في المحيط الهادي، وفانواتو وهي تقع شمال شرقي أستراليا في المحيط الهادي، ومن مميزات معظم هذه الجزر أنها مقصد اللاجئين الأثرياء لأنها تمنحهم الجنسية خلال ثلاثة أشهر فقط مقابل استثمار أموال مقدم الطلب بمبلغ لا يقل عن 130.000 دولار أميركي. والدولة الثامنة غير العضو في المنظمة هي المحروسة كوريا الشمالية التي لا تعترف بـ«الإنتربول» ولا هو يعترف بها!
نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» يوم الجمعة الماضي (21 يناير/ كانون الثاني 2022) تقريراً إخبارياً من مدينة درعا في سوريا تضمن تفاصيل عن «تسويات» أو «إكرامية» مالية لا تقل عن ألف دولار من كل سوري معتقل، وهم بالآلاف، يفرضها جهاز الأمن السوري لحساب أحد المسؤولين الكبار مقابل إطلاق سراحهم وشطب أسمائهم من سجلات «الإنتربول». وليس واضحاً ما إذا كان لجهاز الشرطة الدولي علمٌ بهذه «الرشوة» التي تشوه سمعة «الإنتربول».
الدول المؤسسة للمنظمة في عام 1923 هي ألمانيا، والنمسا، وبلجيكا، والصين، والدنمارك، ومصر (الدولة العربية الوحيدة)، والولايات المتحدة، وفرنسا، واليونان، والمجر، وإيطاليا، وهولندا، وبولندا، ورومانيا، والسويد، وسويسرا، وتشيكوسلوفاكيا. ومن الدول العربية التي انضمت بعد ذلك لبنان (1949)، وسوريا (1953)، وليبيا (1954)، والسعودية والأردن والسودان (1956)، والمغرب وتونس (1957)، والجزائر (1963)، والكويت (1965)، والعراق (1967)، والبحرين وسلطنة عُمان (1972)، والإمارات (1973)، وقطر (1974)، والصومال (1975)، واليمن (1976)، وفلسطين (2017). واللغة العربية معتمدة في «الإنتربول» إلى جانب ثلاث لغات أخرى هي الإنجليزية والفرنسية والإسبانية.
ولهذه المنظمة سبعة مكاتب إقليمية في أبيدجان عاصمة ساحل العاج، وسان سلفادور عاصمة السلفادور، ونيروبي عاصمة كينيا، وهراري عاصمة زيمبابوي، وياوندي عاصمة الكاميرون، وبانكوك عاصمة تايلند، وبوينس آيرس عاصمة الأرجنتين. وتولى رئاسة «الإنتربول» منذ تأسيسها حتى اليوم 24 شخصاً من 17 دولة كان أكثرهم من النمسا، حيث احتكرت 4 دورات. ويترأس المنظمة حالياً اللواء أحمد ناصر الريسي، وهو المفتش العام في وزارة الداخلية الإمارتية وأول عربي يتولى رئاسة «الإنتربول».
والغريب أن مصر التي شاركت في تأسيس المنظمة في عهد الملك فؤاد الأول والد الملك فاروق الذي سقط نظامه الملكي في يوليو (تموز) 1952 لم تترأسها طوال 100 عام حتى اليوم.
والغريب أيضاً أن «الإنتربول» يشارك في البحث عن المجرمين في هذه المعمورة، إلا أنه فشل في ضبط رئيس المنظمة نفسها الصيني منغ هونغوي الذي اعتقلته بلاده فور وصوله في عام 2018 إلى بكين بتهمة الفساد في مناصب تولاها في الحكومة الصينية قبل اختياره لرئاسة «الإنتربول»، من بينها نائب وزير الأمن العام الاجتماعي في جمهورية الصين الشعبية. وذكرت المحكمة الصينية التي حاكمته، أنه تلقى رشى تزيد على مليوني دولار أميركي أثناء شغله مناصب في وزارة الأمن العام وخفر السواحل بين عامي 2015 و2017، وحكمت عليه بالسجن 13 عاماً وتغريمه 290 ألف دولار.
وبعيداً عن الصين، تصدر المنظمة أنواعاً مختلفة من النشرات تحمل كل منها لوناً مختلفاً، وهي الأحمر، والأزرق، والأخضر، والأصفر، والأسود، والبرتقالي، والأرجواني (البنفسجي). بالإضافة إلى نشرة خاصة تصدر بطلب من مجلس الأمن في منظمة الأمم المتحدة.
ولكل لون من هذه النشرات وظيفة خاصة، فالحمراء وهي أخطرها عن طلب مكان اعتقال شخص مطلوب من قبل سلطة قضائية أو محكمة دولية بهدف تسليمه. والنشرة الزرقاء لتحديد مكان أو الحصول على معلومات عن شخص مهم في تحقيق جنائي. والنشرة الخضراء للتحذير من أنشطة إجرامية لشخص ما إذا كان يُعدّ تهديداً محتملاً للسلامة العامة. والنشرة الصفراء لتحديد مكان شخص مفقود أو التعرف على شخص غير قادر على التعريف بنفسه لسبب ما. أما النشرة السوداء، فهي لطلب معلومات عن جثث مجهولة الهوية. واللون البرتقالي للتحذير من حديث أو شخص أو شيء أو عملية تمثل تهديداً وخطراً وشيكاً على الأشخاص أو الممتلكات. وخصصت المنظمة اللون البنفسجي لتوفير معلومات عن طريقة العمل أو الإجراءات أو الأشياء أو الأجهزة أو أماكن الاختباء التي يستخدمها المجرمون.
أما النشرة الخاصة بين «الإنتربول» ومجلس الأمن فهي لإبلاغ أعضاء «الإنتربول» بأن الفرد أو الكيان يخضع لعقوبات الأمم المتحدة.
أستدرك لأقول، طبعاً إن معظم هذه المعلومات موجود على موقع «الإنتربول» الدولي، لكن كثيرين يجهلون ذلك، وبضمنهم ضباط شرطة، إلا إذا استدعى الأمر فتح الموقع. وتنص المادة 21 من قانون «الإنتربول» على أن يتصرف جميع أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة لدى قيامهم بوظائفهم باعتبارهم ممثلين للمنظمة وليس لبلدانهم.
من عمليات «الإنتربول» المهمة ضبط منتجات صيدلانية غير مشروعة بملايين الدولارات في الولايات المتحدة وسحبها من الأسواق في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتكررت عملية مماثلة في الأردن، والعراق، وقطر، والكويت، ولبنان، وليبيا، والمغرب، والمملكة العربية السعودية، وتم سحب منتجات محتملة الخطورة من التداول وهي مرتبطة بتفشي جائحة «كورونا». ويركز «الإنتربول» على الجرائم الصيدلانية لأنها تشكل خطراً كبيراً على الصحة العامة؛ فهي تضم أدوية مزيفة ومقلدة تهدد حياة المرضى الفقراء. وفي معظم العواصم العربية توجد أسواق متخصصة ببيع الأدوية المزيفة، وفي بغداد - مثلاً - سوق واسعة لهذه التجارة التي تحميها ميليشيات مسلحة موالية لإيران لا تقترب منها الشرطة الوطنية ولا مكتب «الإنتربول» الوطني. بل إن هناك صيدليات تبيع هذه الأدوية ومحاقن وخيوطاً جراحية وأشرطة لاصقة في العمليات الطبية ومقاييس للسكر في الدم، ومسكنات لها مضاعفات، ومهدئات وهرمونات ومكملات أغذية وشهادات طبية مزورة من «أطباء» مزورين لا يعرفون مواقع كليات الطب أو الصيدلة أو وزارة الصحة! وشهدت الكويت كما ورد في إحدى نشرات «الإنتربول» في عام 2020 انتشار التجارة غير المشروعة بالترامادول، وهو نوع من المسكنات الأفيونية، تروّجها جماعات إرهابية ضمن نشاطاتها العلنية والسرية، من بينها تنظيم «داعش» الإرهابي الذي ارتبط بهذا النوع من المخدرات في تمويل عملياته، وكذلك «حزب الله» اللبناني وميليشيات عراقية، وتضامنت الدول العربية المعنية بهذه التجارة الممنوعة في إجراءات مستدامة.
يمكن لـ«الإنتربول» أن يقدم خدمات جليلة من تجاربه المماثلة في جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية وغابات أفريقيا. وكنت أرجو شخصياً أن يصدر «الإنتربول» نشرة بألوان القوس قزح تدعو إلى إلقاء القبض على الفاسدين السياسيين الهاربين من العراق إلى الخارج بتهم تهريب ثروات العراق وغسل الأموال، وبينهم رؤساء وزارات ووزراء... لكن القانون الأساسي لهذه المنظمة الدولية لا يسمح لها، للأسف، بالتدخل في السياسة، وإلا لكنا شاهدنا وسمعنا وقرأنا العجب!