بالنسبة لغالبية الغربيين، قد تبدو الأخبار عن إرسال روسيا قوات لقمع انتفاضة شعبية في كازاخستان وكأنها حدث صغير في ركن بعيد من العالم. لكن بالنظر إلى سياق حكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإخضاعه أوكرانيا، فإن ذلك يتخذ أهمية وبعداً أكثر شراً.
فبعد ثلاثين عاماً من الانهيار السوفياتي الذي اتضحت تداعياته في حقبة ما بعد الحرب الباردة، صاغ بوتين رؤية - أطلق عليها «عقيدة بوتين» - تهدف إلى إنهاء تلك الحقبة بشكل حاسم.
تتجلَّى رؤية بوتين بشكل أوضح في مسودات المعاهدات التي اقترحتها حكومته ثمناً لعدم غزو أوكرانيا مرة أخرى. وترقى هذه المقترحات إلى مستوى المطالبة بمجال اهتمام روسي معترف به دولياً يشمل الاتحاد السوفياتي السابق وجزءاً كبيراً من أوروبا الشرقية.
سيُطلب من منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقف أي توسع إضافي في الشرق، والتخلي عن مساعدة الدول، مثل أوكرانيا، التي تقع خارج التحالف. وسيتعيَّن عليها تقييد التدريبات والتدريبات بشدة في المناطق التي تعتبرها موسكو حساسة، والامتناع عن نشر الأسلحة النووية الأميركية في أي مكان في أوروبا. والأكثر إثارة للدهشة أنه سيتعين عليها الالتزام بمغادرة دول أوروبا الشرقية التي انضمت إلى الحلف بعد عام 1997 من دون دفاعات تقريباً. وستكون النتيجة ضعف حلف «ناتو» بشدة وكذلك أوروبا الشرقية، حيث يجب على الدول أن تذعن لرغبات روسيا وإلا ستتحمل العواقب.
أدَّت مطالب بوتين إلى اقتراحات بأنه رجل من القرن التاسع عشر يعيش في القرن الحادي والعشرين، فيما يوحي بأن محاولات الإكراه والتعظيم الجيوسياسي لم تخرج أبداً عن نمطها التقليدي. ومع ذلك، يحاول بوتين بالفعل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء عن طريق التراجع عن نظام ما بعد الحرب الباردة.
بعد الانهيار السوفياتي، كان موضوع سياسة الولايات المتحدة المتحرك هو الترويج لنظام دولي ليبرالي موسع، من شأنه أن يحيل مجالات النفوذ الاستبدادي إلى التاريخ. فداخل أوروبا، سعت أميركا تكوين قارة كاملة، حرة تعيش في سلام – قارة يمكن فيها لجميع البلدان أن تختار تحالفاتها الجيوسياسية وأنظمتها السياسية.
جمعت هذه الرؤية بين المثالية المتصاعدة وحسابات التفاضل والتكامل الاستراتيجية الباردة. كان من المفترض أن تسمح لبلدان أوروبا الشرقية بتحديد مصيرها بعد عقود أو حتى قرون من الخضوع لقوى أكبر. في الوقت نفسه، فإن السماح لحلفاء الاتحاد السوفياتي السابق أو حتى الدول التي كانت ذات يوم جزءاً من الاتحاد السوفياتي بالانضمام إلى «الناتو» من شأنه أن يعزز موقف واشنطن في أي مواجهة مستقبلية مع روسيا. بلغ هذا المشروع ذروته بين عامي 2003 و2005، عندما أكمل «الناتو» جولته الثانية والأكبر من توسع ما بعد الحرب الباردة واستبدلت «الثورات الملونة» الحكام الفاسدين بالقادة ذوي الميول الغربية في جورجيا وأوكرانيا. ومع ذلك، بالعودة إلى الوراء، كان هذا أيضاً عندما بدأت روسيا التي كانت ساجدة ذات يوم تستعيد قوتها الجيوسياسية، وعندما بدأ بوتين في التراجع. واتهم الزعيم الروسي في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، في خطبة غاضبة، أميركا المهيمنة بتجاوز الحدود في أوروبا وخارجها.
في العام نفسه، شن قراصنة روس هجوماً إلكترونياً كبيراً في إستونيا بعد أن أزالت حكومتها نُصباً تذكارياً يعود إلى الحقبة السوفياتية - في تذكير رمزي بأن دول البلطيق لم يكن بإمكانها الهروب من ماضيها بسهولة. وفي السنوات التي تلت ذلك، طور بوتين نهجاً متعدد الجوانب لاستعادة هيمنة روسيا في «الدول المجاورة».
أعطى تحديث الجيش الذي كان متهالكاً ذات مرة بوتين القدرة على منع الدول المجاورة من الانجراف إلى المدار الغربي: في عامي 2008 و2014، قسمت موسكو جورجيا ثم أوكرانيا عندما بدا أنهما كانتا تنزلقان بعيداً. واستخدمت روسيا في الوقت نفسه الهجمات الإلكترونية والمعلومات المضللة وغيرها من برامج زعزعة الاستقرار لإبقاء الجيران الضعفاء في حالة من الفوضى، وتقويض المؤسسات – «الناتو» والاتحاد الأوروبي - التي يرى بوتين أنها تتعدى على جناحه. شكّل بوتين أيضاً «الاتحاد الاقتصادي الأوراسي»، وهو اتفاق للتجارة الحرة من خمسة أعضاء بما في ذلك كازاخستان، كوسيلة لربط الدول السوفياتية السابقة بموسكو، واستثمر بشكل أكبر في «منظمة معاهدة الأمن الجماعي»، وهو تحالف عسكري فضفاض له دوافع مماثلة. رافق بوتين هذه الإجراءات بتبريرات آيديولوجية وتاريخية لإكراه الدول الصغيرة. وفي عام 2021، نشر مقالاً يجادل فيه بأن أوكرانيا كيان مصطنع ليس له الحق في الاستقلال السياسي أو الجيوسياسي.
كما يشير كل ذلك، إلى أن عقيدة بوتين أصبحت أكثر حزماً بمرور الوقت... إن الدولة التي تراجع نفوذها بسرعة بعد الحرب الباردة تدعو الآن إلى تقسيم ثنائي القطب في أوروبا وتستخدم القوة على أطرافها.
سؤال آخر حول ما إذا كانت عقيدة بوتين ستنجح. لقد انتزع بوتين أجزاء كبيرة من شرق أوكرانيا في عام 2014، لكنه قاد النصف الغربي من البلاد نحو حلف «الناتو» الذي أصبح أخيراً جاداً في الدفاع عن أعضائه الشرقيين. اليوم، تغازل فنلندا والسويد علناً للانضمام، أو على الأقل تقترب أكثر من «الناتو» إذا غزت روسيا أوكرانيا مرة أخرى. وحذرت الولايات المتحدة من أنها سترد على هجوم روسي بوضع المزيد من الأصول العسكرية في أوروبا الشرقية، بالإضافة إلى فرض عقوبات اقتصادية.
قد لا تثني هذه التكاليف بوتين، الذي يبدو ملتزماً أكثر من أي وقت مضى بكسر مقاومة أوكرانيا وتفكيك نظام ما بعد الحرب الباردة في أوروبا الشرقية. لكن الإرث الرئيسي لمبدأ بوتين قد يكون مثيراً للسخرية: فكلما دفعت روسيا بقوة لاستعادة مجال النفوذ، أصبحت مطوقة بشكل استراتيجي.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
8:2 دقيقه
TT
«عقيدة بوتين» في أوكرانيا وكازاخستان واضحة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة