أحمد محمود عجاج
TT

العمال والمحافظون... الفرار من الآيديولوجيا

في بداية هذا العام منحت ملكة بريطانيا، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، أعلى وسام في بريطانيا، وبعده بأيام مدح زعيم حزب العمال البريطاني كير ستارمر، بلير وتبنى آيديولوجيته مع تعديل بسيط. هذا التبني الجديد بالذات يطرح تساؤلاً مشروعاً: لماذا الآن وبعدما تبيُّن فشل آيديولوجية بلير، وقبله فشل آيديولوجية ثاتشر؟ فبلير العمالي كان أقرب إلى مارغريت ثاتشر منه إلى الاشتراكية، وقد نُقِلَ عن ثاتشر قولها، إنه ابنها «الآيديولوجي» غير الشرعي. فما آيديولوجية بلير، ولماذا يعود الآن إليه حزب العمال، ولماذا يتقاتل حزب المحافظين على وراثة ثاتشر؟
في عقد التسعينات رفع توني بلير شعار «حزب العمال الجديد»، لتمييزه عن آيديولوجية حزب العمال الاشتراكي، واستطاع أن يحصل على أكثرية برلمانية على مدى ثلاث مرات، وهو إنجاز لم يسبقه إليه أحد من قيادات الحزب. كما تمكن من تغيير وجه بريطانيا على المستويين الداخلي والخارجي، وأصبح بلا منازع الشخصية الأكثر بروزاً في العالم. ويكمن سر هذا النجاح في نظرية «الطريق الثالثة» التي استنسخها من الفيلسوف الأميركي جون رولز، والتي اعتمدها كذلك الرئيس الأميركي بيل كلنتون الذي كانت تربطه صداقة بهذا المفكر الأميركي.
هذه النظرية هي رد مباشر على نظرية فردريك حايك التي اعتمدتها رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر والرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان؛ وهي نظرية فلسفية اقتصادية حققت نجاحاً في الثمانينات وهاجمها بلير في حملته الانتخابية؛ لأنها أدت إلى الفساد وإلى تغييب العدالة الاجتماعية. وتأسست نظرية ثاتشر على أن دور الدولة يجب أن يكون محدوداً جداً، وأن الفرد هو الأساس في المجتمع، بمعنى أن مصلحته تعلو على المجتمع؛ وهذا يعني بالممارسة نسف الديمقراطية الاجتماعية التي تعطي الدولة دوراً أكبر في تحقيق توازن اجتماعي في المجتمع، وفي توزيع عادل للثروة. مارغريت ثاتشر ترى أن الفرد من حقه أن ينال كسب عرقه، وعلى الدولة أن تخفض الضرائب، وأن تزيل كل العوائق التي تقف في وجهه مثل القوانين والإجراءات الإدارية، وبالتالي فتح الأبواب أمام القطاع الخاص والتضييق على القطاع العام؛ هذه النظرية هي التي تجسد العولمة والتي فتحت الباب أمام المال ليخرج من حدود الدولة ليحصد ما شاء له من أرباح في أرجاء الكرة الأرضية، وأدى إلى اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء وإلى الشعور بالإحباط العام.
وردّاً على هذه النظرية؛ جاء بلير بنظرية معاكسة، لكنها تلتقي في التطبيق مع نظرية ثاتشر؛ فهو يرى أن الدولة لا يمكن استبعادها من عملية تنظيم المجتمع، وأن المشكلة ليست في توزيع الثروة، إنما في دور الدولة في تحقيق المساواة في الفرص بين المواطنين، وفي حماية الطبقة الفقيرة. وبهذا الفهم المعدَّل لنظرية جون رولز حقق بلير إنجازات اجتماعية خفّفت من غلواء نظرية ثاتشر؛ لأنه أعطى للدولة دوراً أكبر في تحقيق توازن مجتمعي من خلال الإنفاق الكبير على التعليم، وعلى إعطاء حوافز مالية لأصحاب الدخول المتدنية، وزيادة المخصصات للمتقاعدين، وضخ المليارات في القطاع الصحي، وإعطاء مخصصات مالية للأطفال من الأسر الفقيرة، وزيادة المعونات الخارجية، وحتى الدخول المجاني للمتاحف. لكن بلير لم يخالف ثاتشر في أولوية الخصخصة، إنما شذَّب قدر ما أمكن تبعاتها، وبذلك بقيت العولمة تتقدم، ولم يتمكن من تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء؛ كانت النتيجة إنفاق الدولة للأموال من دون زيادة في الضرائب، فتراجعت الميزانية لدرجة أنه عندما خسر حزب العمال السلطة، قال أحد الوزراء في حكومة العمال «نسلّم لهم الميزانية وليس فيها قرش واحد»!
الثابت، أن ثاتشر وبلير غيَّرا وجه بريطانيا، لكنهما لم ينجحا في بناء مجتمع صالح، ولم يجسدا النموذج السياسي الأرقى؛ لأن إطلاق حرية الفرد المطلقة أدى إلى اختلال مجتمعي، وأدى تدخل الدولة، مع إبقاء النظرية الفردية، إلى الفساد، وأدى إلى «استبدادية النخبة» التي تحدث عنها الفيلسوف الأميركي مايكل ساندل، ومفادها أن النخب المتعلمة حصدت مكاسب مالية واجتماعية هائلة تحت شعار الخصخصة والعولمة وانعكس إنجازها احتقاراً للطبقات الأخرى غير المتعلمة وغير الغنية؛ هذا بدوره أسهم - كما رأينا في عهد ترمب، أو خلال الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي - في انقسام المجتمعين البريطاني والأميركي؛ فكان المؤيدون للبقاء في الاتحاد الأوروبي أو المعارضون لترمب من أكثرية النخب المتعلمة، والمعارضون للبقاء في الاتحاد الأوروبي أو المؤيدون لترمب من الفئات غير المتعلمة والفقراء؛ هذا الانقسام تَمثّل في رفض أكثرية الناس آراء الخبراء في الأمور المعقَّدة؛ لأنها تراهم فئة نخبوية تهتم بمصالحها على حسابهم. ووصلت الشعبوية في خضمّ هذا الانقسام إلى أقصاها متمثلة بوصول ترمب إلى السلطة وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وصعود اليمين المتطرف في ديمقراطيات أوروبا.
إن استمرار الحزبين البريطانيين في استرجاع الماضي يؤشر إلى الفقر الفلسفي السياسي، وإلى وصولهما إلى طريق مسدودة؛ فحزب العمال لا يمكنه رفع شعار الاشتراكية بعد خسارته الانتخابات مؤخراً، وحزب المحافظين ينحر نفسه بتمسكه بالخصخصة الثاتشرية؛ وكَمَخرج من هذا المأزق ولكيلا يظهر حزب العمال كأنه يُعيد الماضي، رفع ثلاثة شعارات تُكسبه أصوات الناخبين: الأمن، والازدهار، والاحترام. هذه الشعارات مقصودة بالذات؛ فتشديده على الأمن هو نفي للاتهام بأنه غير وطني، لكونه اشتراكياً، ولتأكيد أولوية الولاء لبريطانيا. وتحقيق الازدهار يتطلب منه الاستمرار بنظرية الخصخصة، لكنه أدخل عليها عنصر الاحترام؛ لتمييزها عن المشروع البليري؛ فالاحترام يعني عملياً تقليم أظافر الطبقة النخبوية (المتعلمة) بإجبارها على التواضع وعلى الحد من مكاسبها المالية، ويتطلب كذلك فرض الضرائب لإزالة الهوّة بين الأغنياء والفقراء. مقابل هذا الطرح من قيادة حزب العمال، نشاهد تخبط قيادة حزب المحافظين وتقاتُلها حول قدسية الثاتشرية، واتهام زعيمها بوريس جونسون بالابتعاد عنها وتبنيه عملياً نظرية اشتراكية بفرضه الضرائب، وإنفاقه على القطاعات العامة وتعهده بالمساواة الاجتماعية.
المفارقة أن كلاً من الحزبين يسير عكس آيديولوجيته، وهذا يؤشر إلى إفلاس فكري كبير وإلى أنهما يكرران التاريخ، إنما هذه المرة، كما يقول المفكر كارل ماركس، لن تكون مأساة، بل «مهزلة».