د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

ما لا يُكتَب في سِيَر العرب!

صُعِقَ النجم السينمائي ويل سميث حينما شاهد والده وهو يَصفَع أُمّه بقوة لتسقط على الأرض وتسيل دماؤها. لم يكن في وسع هذا الفنان، وهو في سن العاشرة، أن يتحمل حادثة إهانة أُمّه، حيث انهارت معنوياته، خاصة أن تلك الصفعة تكررت مرات عدة، كما ذكر في سيرته الذاتية الماتعة التي نشرت مؤخراً بعنوان Will وجاءت في نحو 400 صفحة ولم تترجم إلى العربية حتى الآن.
يعترف الفنان أنه اكتشف مقدار الجبن الذي تغلغل في نفسه؛ لأنه لم يستطع حماية والدته وهي تُهان. وانسحب ذلك مع أبناء الحارة، التي كانت «حارة كل من إيدو إلو» كما يقول المثل الشعبي. فكان يهرب من هذا الواقع الأليم، وتسلط أبيه وعنجهيته باختياره أن يكون كوميدياً في البيت وخارجه؛ ليشتت انتباه والده وكل من يحاول النيل منه. كان هذا السلوك هو ملاذه هروباً من ضعف المواجهة. ويلمح إلى أن أباه «تاجر الثلج» قد دمّر شخصيته، وأن الله حباه بأُمّ متعلمة ومثقفة بذلت ما بوسعها ليدخل أبناؤها الجامعات لتنتشلهم من «الشوارع» التي كان يقضي فيها أبناء البشرة السوداء معظم أوقاتهم كما يقول.
وأنا أقرأ سيرة النجم السينمائي Will Smith وصراحته الصادمة، كنت أتأمل كم السير الذاتية العربية التي يقدم فيها شخصيات عامة أنفسهم، وكأنهم عظماء لم يعانوا قط من أي تحدٍ اجتماعي أو نفسي أو مالي. تقرأ سيرة مبتورة وأحياناً غير صادقة؛ لأنها تروي خلاف الواقع. ما حدث في الطفولة كما يقول علماء النفس ينعكس على شخصياتنا. وما أكثر من عانوا من جبروت الطغاة، أو سوء الأخلاق، أو افتقار أدب الحوار؛ لأن أحداً لم يأخذ بيدهم منذ نعومة أظفارهم. وكم من شخص عايش ما وصفه سميث من هلعه حينما يسمع صلصلة حلقة «الثلاثين مفتاحاً» التي كان يحملها والده على خصره. ويقول كلما ازدادت سرعة صوت صلصلة المفاتيح زاد خوفه؛ لأن ذلك مؤشر على مدى تعكر مزاج أبيه. الذي كان يضرب أبناءه ضرباً مبرحاً. وهذا ما جعل ويل سميث يحب الأقوياء، ربما ليعوض نقصه أو خللاً في التربية.
نحن لا ندعو إلى التشهير بالأهل والأقرباء، ولكننا نتحدث على أقل تقدير عن رواية حقائق موضوعية والصعاب والتحديات. فالسيرة الذاتية ليست كتباً معلوماتية، بقدر ما هي رحلة يأخذك صاحبها إلى عوالم خفية أو حقبات زمنية لم تعايشها، ولذا اقتضى ذلك أمانة النقل. وقد سمعت عن شخصية عربية مرموقة بعدما اكتملت سيرتها الذاتية الرائعة غضب الأبناء، وأصرّوا على أن يمزقوا فصلاً كاملاً شرح فيه أبوهم تفاصيل كيف كان يُهَرّب الذهب عبر السفن إبان الحرب العالمية.
ومن أجمل الكتب التي قرأتها سيرة علي النعيمي «من البادية إلى عالم النفط» التي افتخر فيها بأنه نشأ في الصحراء، وحتى سن العاشرة تقريباً لم يكن يقرأ أو يكتب. ثم أصبح مهندساً ووزيراً للبترول لأكبر دولة منتجة للذهب الأسود. فهذه بحد ذاتها تبث الحماسة في الشاب الذي لم ينل حظه من التعليم وكاد يستسلم لكلام المثبطين بأنه قد فات الأوان.
من حق الأجيال أن تصلهم الصورة كما هي. ولذا لا يجب أن يتردد الكُتّاب في لحظات البوح. والمشكلة ليست فيمن يكتب، بل كذلك في بعض القرّاء العرب الذين يتوقعون أن الناس ملائكة لا يعتريهم ما يعتري البشر من قصور.
أؤمن بأن ما لم يكتبه العرب أهم بعشرات المرات مما كُتِب. ويلجأ بعضهم في السير لفكرة «ما بين السطور» لعلها تنقل معاني لا يجرؤ القلم على تسطيرها. فالعرب تفترض أن «اللبيب بالإشارة يَفهَمُ».