عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

«بارتي ـ غيت» وحكومة المحافظين

«بارتي – غيت»، إضافة لتعبيرات فلييت ستريت، أقدم شارع صحافة في العالم. ومنذ فضيحة «ووتر غيت»، التي أودت في 1974 بالرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة، ريتشارد نيكسون (1913 - 1994)، يلصق الصحافيون اسم أي أزمة تصيب رجل سياسة بـ«غيت»، لتقدم التحقيقات الرأس المستهدف على صينية، ولو من الصفيح الصدئ.
«Partygate» حفلة، وراء أشهر باب في العالم، رقم 10 داوننغ ستريت العام الماضي، والمستهدف الرأس الكبيرة، رئيس الوزراء، بوريس جونسون.
حكومة جونسون المحافظة مستهدفة من جهات متعددة، أولها، أغلبية المؤسسة الحاكمة والصفوة الليبرالية المسيطرة على الوسائل الصحافية، والموالية للاتحاد الأوروبي، وترى الجناح الجونسوني مسؤولاً عن «بريكست»، ثانيها داخل تيار يمين المحافظين، وكانوا مرتاحين لقيادة جونسون، الذي مكنته شعبيته من الفوز الكاسح في انتخابات 2019 على تذكرة «بريكست»، تجتاحها حركة تذمر فيما يرونه تحولاً يسارياً نحو سيطرة الدولة على المواطن من جانب فريق جونسون في الحكومة، بسبب إجراءات الحظر من الفيروس المتحور حديثاً. هذا الفريق ليبرتاري النزعة، يرى زيادة الإجراءات واشتراط شهادات التطعيم والفحص وتقييد النشاطات والحجر الصحي هجوماً على الحرية الفردية التي يقدسها هذا التيار. هذا التيار يتمرد على الحكومة، وبعضهم صوّت ضد الحكومة في الأسابيع الماضية. لم تظهر خطوات تحدي زعامة جونسون - اللهم إلا إذا نقصت شعبيته كرصيد انتخابي للمحافظين. لهذا التيار خياران، كبديل «احتياطي»، لجونسون، أولهما وزير المالية والتبادلات الاقتصادية ريتشي سوناك، الذي ارتفعت شعبيته كثيراً أثناء إغلاق «كوفيد» بسبب سياسته النقدية – الأقرب إلى الاشتراكية في الدعم المادي لمن أقعدتهم العزلة الصحية عن العمل؛ ووزيرة الخارجية الحالية (وسابقاً وزيرة التجارة الدولية) إليزابيث ترس، التي تقلد، سياسةً، ومظهراً، رئيسة الوزراء الراحلة الليدي ثاتشر (1925 - 2013) أيقونة المحافظين والزعيمة الأكثر شعبية بعد السير ونستون تشرشل (1874 - 1965). لكن لم تحدث أي تحركات، حتى الآن، للحصول على توقيعات كافية لإرسال خطاب تحدي زعامة جونسون إلى اللجنة المختصة في الحزب. هذا التيار ينتظر ما ستسفر عنه الانتخابات الفرعية في دائرة شمال شروبشير (230 كيلومتراً شمال غربي لندن) يوم الخميس (19 ديسمبر/ كانون الأول). الدائرة منذ ظهورها تصوت للمحافظين بلا استثناء، وإذا حدث تحول كبير في الأصوات، ورأى هذا التيار أن زعامة جونسون أصبحت عبئاً بدلاً من رصيد انتخابي قد يظهر التحدي.
الجهة الثالثة أحزاب المعارضة، من عمال وأحرار، وقوميين اسكوتلنديين، تريد التخلص من جونسون، لسبب معاكس تماماً، وهو قناعتهم بشعبيته لدى الناخب البريطاني، وبالتالي يستطيعون هزيمة حزب المحافظين بلا زعامة لها كاريزما مثل جونسون وخفة دمه التي يحبها رجل الشارع العادي.
جونسون يواجه تحدياً آخر، وهو الاتهامات باستخدام أموال صديق (من ممولي حزب المحافظين) بدلاً من دعم صندوق كان يفترض أن ينشأ خصيصاً، لتجديد الديكور وتغيير الأثاث في الشقة الخاصة برئيس الوزراء وأسرته فوق رقم 11 داوننغ ستريت (المباني متصلة ببعضها). وبالمناسبة الشقة مثل المباني من ممتلكات الدولة (التاج البريطاني) وإقامته فيه وأسرته مؤقتة، تنتهي بعد ساعات في حالة خسارته للانتخابات أو استقالته، أي أنه لم يحصل على مكاسب شخصية ولو مليماً واحداً، لأن الإصلاحات والديكور ستظل ملك الدولة، لكن المبالغ المنفقة تجاوزت أضعاف ما تصرح به لوائح الخزانة ويتحملها دافع الضرائب. وقد يجادل البعض بأنه لا ضرر طالما أن جونسون اجتهد ولم يكلف الخزانة أموالاً إضافياً، لكن الأمر يتعلق بالشفافية، وأيضاً بما إذا كان تمويل شخص أو رجل أعمال للديكور قد يعني زيادة نفوذه في دوائر صنع القرار.
دوائر الضغوط الثلاثة التي تهدد جونسون: رفض يمين الحزب ما يرونه زيادة جرعات التحكم في سلوكيات المواطن وتقييد الحرية الشخصية؛ وديكور الشقة وعدم الشفافية؛ و«البارتي – غيت»؛ الطريف أن الأخيرة تسيطر على مزاج الصحافيين. اجتماعاتنا الأيام الماضية مع مكتب رئيس الوزراء (مرتين في اليوم عدا الجمعة والأربعاء فمرة واحدة) كان الموضوع المسيطر على أسئلة الصحافيين، هو «البارتي - غيت»، وكما هو متوقع، فإن العبارة والتنوعات اللفظية الساخرة عليها تحولت إلى مانشيتات الصحف والفقرات الأولى في نشرات الأخبار. والمعارضة تتمسك بالأمر، رغم أن الحفلة كانت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي وليس الحالي، أي منذ عام.
احتفالات موسم أعياد الميلاد ملمح أساسي من الحياة الاجتماعية الفلكلورية للشعب البريطاني، لأنها تتجاوز الجانب الروحي بالنسبة لميلاد السيد المسيح، إذ لها أبعاد اجتماعية واحتفالات الأعمال والشركات والمصالح الحكومية والمدارس، وهي مثل المظاهر الاحتفالية الفلكلورية كحلوى الكعك مثلاً عند المصريين على اختلافات دياناتهم؛ أما يوم الكريسماس نفسه (25 ديسمبر/ كانون الأول) فهو تقليدياً للأسرة وتجمعها من كافة أنحاء البلاد في دار الجد أو الأم الكبيرة. في العام الماضي (2020)، أدت الإجراءات التي فرضتها الحكومة إلى إلغاء الاحتفالات مؤدية إلى خسائر اقتصادية، وعدم قدرة الكثيرين على زيارة كبار السن في الأسرة، سواء في بيت العائلة أو في دور المسنين، خشية نقل العدوى إليهم، وآلاف من كبار السن لقي حتفه قبل ظهور أدوية علاج الإصابات وحملة التطعيم.
وعند اكتشاف أن حفلة موظفي مكتب جونسون كانت أثناء إغلاقات الحظر والتجمعات والاحتفالات ممنوعة، وتعرض عشرات من الناس لمخالفات قضائية وغرامات في المحاكم عند إقامة حفلات خرقت لوائح الوباء. «بارتي غيت» تتعلق بأكثر مما يبدو نفاقاً وعدم المساوة، أي تصرف موظفي مكتب رئيس الوزراء بطريقة مخالفة للتعليمات المفروضة قسرياً على بقية الشعب، بل بتهمة أكثر خطورة، وهي «تضليل البرلمان»، أي إدلاء النائب بمعلومات كان يعلم أنها غير دقيقة. الخطأ الذي ارتكبته حكومة جونسون، وكررته حكومات سابقة، هي محاولة التغطية على الخطأ بدلاً من الاعتراف به والاعتذار، فقد أنكرت وجود حفلة، ثم سمتها تجمعاً (gathering) للموظفين مع «مراعاة اللوائح الصحية»، ثم اعتذار جونسون، الأربعاء أمام البرلمان، والأمر بإجراء تحقيق. مأزق الحكومة أن الصحافة مستمرة في كشف أدلة تشير إلى التشكيك في روايته بأنه لم يكن يعلم بتصرفات موظفيه. سوابق ثبوت «تضليل» وزير أو عضو للبرلمان انتهت باستقالته، وأحياناً خسارة الحكومة الانتخابات. منافذ خروج رئيس الحكومة من المأزق تبدو مغلقة.