أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

من حكايات فرار السوريين!

بدأت الصورة تنجلي ما أن فتح عينيه وبقربه شخصان بلباس أبيض يراقبان حركات استيقاظه، كان أحدهما يبتسم ربما ليشعره بالاطمئنان، بينما راح الآخر يتمتم بلغة أجنبية بما يشبه الأسئلة، ولكنهما لم يحتاجا إلى أي إضافة عندما كرر كلمة «سوريا»، هزا رأسيهما، وذهبا.
«أنت الناجي الوحيد» سمع العبارة بعد ساعة من طبيب عراقي يعمل في المشفى ذاته... لقد انتشلكم حرس الحدود، أنت ورفاقك، من بين الثلوج عند مشارف غابة «بياوفيجا» - الغابة الممتدة على طول الحدود بين بيلاروسيا وبولونيا - وأحضروكم إلى هنا... صمت قليلاً وأضاف متأسفاً، رفيقاك فارقا الحياة بينما تمكنا من إنقاذك وكنت في الرمق الأخير.
كانوا ثلاثة حين غادروا دمشق إلى مينسك، عاصمة بيلاروسيا، بعد أن انتشر خبر وجود فرصة للوصول من هناك إلى الغرب الأوروبي عبر بولونيا... شجّعته أخته على السفر وقدمت له أساورها كي يبيعها ويوفر مال الرحلة... كانت تضحية عظيمة منها وهي التي ترعى ولدين صغيرين، بعد أن غيّب الاختفاء القسري زوجها... ذهب، منذ أربع سنوات، كعادته إلى العمل، ولكنه لم يعد، أخبرها زملاؤه بأنه لم يلتحق بعمله في ذلك اليوم... قدمت بلاغاً عن اختفائه إلى مركز الشرطة، فهو لا يعمل في السياسة وليس له أي نشاط يثير الريبة، هو كما يقال: من بيته إلى عمله، ومن عمله إلى بيته! كانت تذهب صبيحة كل يوم لتسأل عنه وإذا كان ثمة خبر بشأنه، إلى أن تعاطف معها أحد الشرطيين وطلب منها ألا ترهق نفسها في المجيء يومياً للسؤال، فعنوانها لديهم وفي حال اكتشاف أي جديد عن زوجها سيتصلون بها... اطمأنت قليلاً ولجمت نفسها من الذهاب اليومي، لكنها بين فينة وأخرى تجد نفسها مدفوعة بالشك والرغبة في التأكد مباشرة، ولتذكيرهم بمشكلتها، فلعلهم نسوا أو انشغلوا عنها بقضايا أخرى، إلى أن انقطعت نهائياً بعد أن استدعاها ذات يوم رئيس المركز وسألها عن نشاطات زوجها، هل شارك في المظاهرات ضد السلطة؟ هل له رفاق أو أقارب ينتمون إلى المعارضة؟ هل قدم أي مساعدة مالية أو عينية للنازحين أو الفارين من المناطق المحاصرة؟ وعندما أجابته بالنفي، هزّ رأسه متحسراً، وأعلن عدم مسؤولية الشرطة عن اختفائه، بل أسرّ لها باحتمال اعتقاله على أحد الحواجز الأمنية، ربما لأنه ينتمي إلى مدينة مغضوب عليها، ثم سارع ما أن شاهد إمارات الرعب ترتسم في عينيها إلى تطمينها، بأنهم سيطلقون سراحه، ما دام بريئاً، في وقت قريب!
فجأة، انقطع شريط معاناة أخته، حين داهمه سعال شديد استحضر من ذاكرته سعال رفيقيه وأصوات لهاثهما وأنينهما وسط الثلوج الكثيفة قبل أن يفقد وعيه بقربهما... دمعت عيناه حين تذكر ضحكاتهما وشدة فرحهما لحظة الوصول إلى مينسك واللقاء مع أحد السوريين المقيمين هناك، وكان معنياً بتسهيل وصولهم إلى الحدود لقاء مبلغ مالي، اشترط أن يقبضه بالدولار.
شعر بغصة مريرة عندما أخبره الطبيب العراقي بأنه سوف يبقى يوماً آخر في المشفى قبل نقله إلى العاصمة، ومن هناك سيتم ترحيله إلى بلده... أحس كأن جبال العالم كلها تطبق على صدره، حين أخبروه في مركز الأمن بموعد رحلة العودة وبأنهم سيحتفظون بجواز سفره وبكل ما يملكه من أوراق حتى وقت مغادرته بما في ذلك شهادته الجامعية. اختلج تنفسه وهو ينظر إلى بطاقة الطائرة، فثمة تساؤلات مرهقة ومؤلمة تعتصر قلبه وفكره... كيف يعود وقد فقد كل ما جناه وما يملكه؟ بأي وجه سوف يقابل أخته وطفليها الصغيرين أو أقاربه وجيرانه الذين باركوا له وشجعوه على السفر والفرار؟ كيف يمكنه النظر في عيون أهل رفيقيه والأهم في عيني أم أحدهما وهي تكرر وصيتها بأن نحفظ أنفسنا من الانجرار إلى السوء، وبأن ليس لنا في الغربة سوى بعضنا البعض؟ ثم إلى أين يعود، وهو الهارب من شظف العيش والغلاء الفاحش.. من انعدام الأمل بالخلاص ومن غياب فرص العمل والعجز عن توفير أبسط مستلزمات الحياة، كالغذاء والكساء والدواء، من شح المياه وانقطاع الكهرباء؟! هل يعود لينضم إلى صفوف بشر يزجرون ويخضعون تحت وطأة السلاح لشتى أنواع الابتزاز، وإلى طوابير شبان سوريين يذلون وتمتهن كراماتهم وهم يلتمسون الحصول على جواز سفر للفرار مثله إلى أي مكان خارج البلاد وقد تيقنوا بأن ما ينتظرهم في بلدهم هو المزيد من الألم والخراب والضياع؟ كيف يعود وهو العارف بأن مئات الأطباء السوريين تركوا مؤخراً بلدهم ليس فراراً نحو أوروبا، بل نحو الصومال، الذي أصبح وللمفارقة ملاذاً وبات فيه الوضع المعيشي والإنساني ومخاطر الحياة أقل تردياً من سوريا؟
هو يدرك رغبة غالبية الدول الغربية في الحد من استقبال المزيد من اللاجئين السوريين بعد أن فتح بعضها الأبواب لهم من دون شروط، وضم إلى مجتمعاته مئات الألوف منهم، لكن قراره كان حاسماً في التسلل إلى إحدى تلك الدول وعدم العودة إلى سوريا، مزّق بطاقة الطائرة، وبدأ يعد نفسه للوصول مرة أخرى إلى الحدود. حشر نفسه في حافلة نقل نحو القرية التي كان في أحد مشافيها، وبدأ يتسلل تحت جنح الظلام وعصف الرياح الباردة، إلى طلائع أشجار تلك الغابة الحدودية العتيقة... بداية، كان يشق طريقه بلهفة وحماس بين الثلوج المتراكمة، كان لديه قسط كبير من العزم والإرادة، لكن، بعد ساعات من السير الشاق، شعر بالبرد القارس يغزو أطرافه، وانتابه إحساس بالتعب والإرهاق... توقف للحظة والتقط أنفاسه، أبعد من باله أي فكرة للتراجع حتى لو كان الضياع والموت هما ما ينتظرانه، فلا مكان في روحه للقلق واليأس من تحقيق حلمه، حلم الوصول إلى أوروبا، حلم الخلاص، حلم مراسلة أخته وولديها، ليقول لها، إنه بخير ويبعث لها بما تيسر من مال يعينها في حياتها المريرة... حزم أمره وغذّ الخطى وإن بتثاقل بينما كان الظلام ينجلي تدريجياً والثلوج المنهمرة تملأ الأفق... لم ينظر إلى الوراء أبداً، حيث لا أفق ولا أمل، كان همه الوحيد متابعة الطريق نحو الأمام مخترقاً ذاك البياض اللامتناهي.