خليل رشاد
كاتب ومحلل سياسي مصري
TT

دائرة الجحيم في مخيم اليرموك

في هذه الأيام، يواجه اللاجئون الفلسطينيون كارثة تفوق الوصف في مخيم اليرموك بدمشق، فحسب اعتقادي، وبكل أسف، لقد حاق بالفلسطينيين كثير من الكوارث واللعنات في اليرموك، فقطع رؤوس قياديين ليس إلا جزءًا صغيرًا من تلك المآسي.
وكما قال السكرتير العام للأمم المتحدة، بان كي مون، يوم الخميس الماضي الموافق 9 مارس (آذار) الماضي: «بالنظر إلى حجم الرعب الذي تعيشه سوريا، فإن مخيم اليرموك يمثل دائرة الجحيم الأعمق».
وفق تعداد أجري قبيل الحرب الأهلية السورية، كان يعيش في اليرموك أكثر من 140 ألف لاجئ فلسطيني لهم مدارسهم، ومساجدهم، ومبانيهم العامة. وكان اللاجئون يعيشون في مساحة صغيرة جدًا لا تتعدى 2.11 كلم مربع في جنوب دمشق. ولم تكن الحياة في اليرموك طبيعية أو عادية طوال العقود القليلة الماضية، فقد كانت مرهقة، وتمثل تجربة قاسية لأناس يحلمون دومًا بالعودة لأرض آبائهم وأجدادهم ولديارهم في فلسطين، فإلى جانب تلك الذكريات والأحلام، لا يملك الفلسطينيون سوى مفاتيح بيوتهم التي أرغموا على تركها، فتلك المفاتيح هي ما تبقى لديهم من بين كل ما كانوا يمتلكونه، وهي الصلة الباقية بينهم وبين أوطانهم.
تخيلت نفسي وأنا في اليرموك فرأيت بعضًا من الرجال والنساء المسنين الذين علقوا على الجدران مفاتيح بيوتهم، تلك البيوت التي دون شك حاق بها الدمار، ولكن هؤلاء الناس ما زالوا ينظرون إلى تلك الذكريات القديمة وكأنها واقع يعيشونه.
لقد بلغت الأوضاع من السوء في اليرموك مبلغها منذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، حيث حوصر السكان بين قذائف قوات الأسد ونيران معارضيه منذ 2012، فمنذ بداية الحرب الأهلية بات اليرموك مسرحًا للقتال بين الجماعات المتناحرة المدعومة من جهات مختلفة متورطة في الحرب الأهلية، بما فيها مجموعات معارضة مختلفة، فضلاً عن جبهة التحرير الفلسطينية - القيادة العامة التي تدعمها القوات النظامية السورية، ونتيجة لذلك وخلال السنوات القليلة الماضية تحول مخيم اليرموك إلى ميدان معارك بين القوى المتناحرة المختلفة في سوريا، التي فرضت سيطرتها عليه، ليعاني اليرموك بعدها من نقصان في المؤن وانتشار الجوع والأمراض وارتفاع معدل الوفيات مما دفع كثيرين من سكان المخيم إلى الفرار منه.
وبحلول أواخر 2014، انخفض عدد سكان المخيم إلى 20 ألف نسمة فقط، إلا أن الأوضاع ازدادت بؤسًا عندما شن تنظيم داعش هجومه على المخيم في الأول من أبريل (نيسان)، فاضطر المئات من السكان إلى الهرب تحت قصف القوات الحكومية، ووسط أزيز الرصاص المتبادل بين مقاتلي داعش، والمسلحين الفلسطينيين.
ومع تفاقم الأوضاع الإنسانية داخل مخيم اليرموك أصبح هناك شح في الطعام يعاني منه المدنيون العالقون داخل المخيم، والواقعون تحت الحصار، كما أن سبل الرعاية الصحية باتت أثرا بعد عين، فلا توجد مياه صالحة للشرب، ولا كهرباء، ولم يتبق سوى عدد قليل من الأطباء، بينما تنهال القذائف على الجميع بلا تمييز ليؤدي ذلك كله إلى «وضع مأساوي» يشهده مخيم اليرموك حسب شهادة أحد النشطاء هناك.
«مدينة أشباح»، هكذا يمكننا أن نصف مخيم اليرموك، أو كما وصفه بان كي مون بأنه دائرة الجحيم، فالسكان المدنيون يعانون أشد المعاناة داخل بيوتهم، ويخشون الخروج إلى الشوارع خوفًا على حياتهم، بينما لجأ الآلاف إلى مناطق مجاورة، ولا يعني هذا سوى أن الفلسطينيين وقعوا بين شقي رحى حرب تدور بدمائهم ودموعهم، فها هي قوات الأسد من جانب، والمسلحون من جانب آخر بما فيهم «داعش»، يسفكون دماء الفلسطينيين.
ما زلت أتذكر كلمات القيادي الفلسطيني أبو إياد عندما التقيت به أثناء عقد المجلس الوطني الفلسطيني السادس عشر في الجزائر حينما قال لي: «نصيبنا من الحياة هو الموت». وقال تلك الكلمات بعدما استمعنا إلى قصيدة «بيروت خيمتنا»، التي كتبها محمود درويش، قال فيها إن نصيبنا من بيروت هو البارود! في قصائد مفعمة بموهبة عبقرية وإحساس فنان مرهف تمكن درويش من التعبير عن صدى الحياة والموت.
لقد شاهدت رجلا فلسطينيا مسنّا، لم يترك المخيم منذ أربع سنوات، وما زال يعيش هناك، وقال في مقابلة تلفزيونية: «لقد انقطعت عنا الكهرباء منذ عام 2013 عندما قصف النظام محطة الكهرباء. وتوقفت الأمم المتحدة عن إرسال المساعدات للمخيم، والسكان واقعون تحت حصار خانق، وهذا الوضع المأساوي لا يجلب لقلوب من تبقوا هنا سوى الخوف والهلع».
وكان مجلس الأمن قد طالب بفتح ممر آمن، واصفا الأوضاع هناك بأنها «فاقت حد اللا إنسانية» كما طالبت الرئيسة الحالية لمجلس الأمن، السفيرة الأردنية دينا قعوار، بتوفير الحماية للمدنيين، وفتح ممر آمن، وتوفير المساعدات الإنسانية لإنقاذ حياة العالقين في المخيم.
وعلى الرغم من مقاومة المسلحين الفلسطينيين، وقصف طائرات الأسد للمخيم، لا يزال تنظيم داعش يسيطر على 90 في المائة من المخيم، لكن الجانب المثير للقلق في مأساة مخيم اليرموك هو أن بعض السكان يعتقدون أن معظم مقاتلي «داعش» في المخيم من سكان المخيم، وليسوا من الغرباء عنه، وهو ما يعني أننا نواجه مشكلة بالغة التعقيد، أو بمعنى آخر فإن تنظيم داعش بدأ في تنظيم وتمويل بعض الفلسطينيين للانضمام إليه.
لو اجتمعت كل الجهات التي مولت «داعش» على أن يضعوا حدًا لهذه المأساة في اليرموك فسينجحون في ذلك، فنزع سلاح القوى المتناحرة في اليرموك هو الحل الوحيد لمأساة الفلسطينيين الذين يعيشون في المخيم منذ عام 1948.
المقاتلون الذين كان يجب عليهم أن يحاربوا أعداءهم في إسرائيل، يسفك بعضهم دماء بعض، ولنا أن نتخيل مدى السعادة التي تشعر بها إسرائيل وهي ترى ما يحدث كقطع رؤوس قياديين على أيدي الدواعش، وهو ما يعد أقبح وجه أظهره القتال الدائر في مخيم اليرموك.
أعتقد أنه يتعين على الفلسطينيين، وأعنى فتح وحماس، النظر في هذا الموقف الحساس بمنتهى الجدية، والبحث عن حل له، فإذا عجزوا عن حل تلك المشكلة فسرعان ما سيواجهون كارثة أخرى في مكان آخر، فاليرموك على شفا السقوط في الهاوية هذه الأيام، ولن يستطيع سكانه تحمل مزيد من المعاناة.