مينا العريبي
مساعدة رئيس التحرير السابقة، عملت مديرة مكتب «الشرق الأوسط» في واشنطن بين عامي 2009- 2011 وهي الان رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشيونال» الإماراتية
TT

عامٌ على سياسة بايدن الخارجية

الشهر المقبل، يكمل الرئيس الأميركي جو بايدن عامه الأول رئيساً للولايات المتحدة بعد انتخابه في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020. جاء بايدن للرئاسة وسط أزمات متعددة داخل بلاده على رأسها وباء «كوفيد - 19» وانقسامات سياسية شديدة، ساعد في تأجيجها سلفه دونالد ترمب الذي حتى الآن لم يعترف بهزيمته الانتخابية، ويلوح بإمكانية خوضه انتخابات عام 2024.
مشاهد اختراق مناصري ترمب لمبنى الكونغرس الأميركي يوم 6 يناير (كانون الثاني) الماضي، أصبحت من أكثر المشاهد الصادمة لهذا العام المضطرب - ودول العالم تابعت تلك المشاهد، وأيقنت عمق الأزمة التي تواجه واشنطن والرئيس الجديد. قال بايدن في خطاب تنصيبه بداية العام: «علينا مواجهة الإرهاب الداخلي والتطرف السياسي وهزمه». لا شك أن الولايات المتحدة تواجه صعوداً ملحوظاً في تهديد الإرهاب الداخلي من اليمين المتطرف، الذي بات يهدّد نسيجَ المجتمع خصوصاً في عدد من الولايات. هذه هي الخلفية التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند تقييم سياسات الإدارة الأميركية في العام الماضي.
عادة ما يقضي الرئيس الأميركي الأشهر الأولى من ولايته مركزاً على الشؤون الداخلية وتثبيت السياسات التي وعد بها خلال حملته الانتخابية. وهذا ما حدث مع بايدن الذي بذل جهوداً استثنائية في التوصل إلى اتفاق مع قيادات الكونغرس لتمرير قانون البنى التحتية بقيمة تريليون دولار، والذي يشمل بناء سكك حديد وترميم طرقات الدولة التي تعاني من شحة الاستثمار في بناها التحتية. والتركيز على الاستثمارات الداخلية والتطوير البنياني يأتي في وقت تخشى فيه واشنطن تراجع مكانتها الدولية، فعلى الرغم من أن اقتصادها ما زال الأول عالمياً، فإنه يواجه منافسة شديدة من الصين، التي من المتوقع أن يتفوق اقتصادها ليصبح الأول خلال العقود القليلة المقبلة.
بايدن على دراية بأن العالم كان يترقَّب تحركاته الخارجية الأولى وأولوياته. وتأكيداً على التزامه بتوثيق العلاقات عبر المحيط الأطلسي، كانت وجهته الخارجية الأولى إلى بريطانيا، حيث حضر قمة مجموعة العشرين والتقى بالملكة إليزابيث الثانية في يونيو (حزيران) الماضي. ومن ثم توجَّه إلى بروكسل لعقد اجتماعات مع القيادات الأوروبية وحضور قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). وكان بايدن يريد أن يرسل رسالة بأن الحلفاء الأوروبيين التقليديين هم الأقرب له، وبأنه ملتزم بـ«الناتو» بعد تراجع العلاقات بين واشنطن و«الناتو» في عهد ترمب. ومن ثم انتقل إلى سويسرا، حيث التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في لقاء لم يحسن العلاقات، ولكن سعى إلى إعادة تنشيطها بعض الشيء. وكأن بايدن أراد أن يعيد الزمن إلى النصف الثاني من القرن العشرين، عندما كانت العلاقات مع أوروبا هي حجر الأساس لأميركا، وكان الاتحاد السوفياتي آنذاك هو الخصم الأبرز. لكن الآن، باتت الصين هي الخصم الأبرز الذي يشغل الولايات المتحدة بشكل أكبر، من التنافس الاقتصادي إلى الصراع على الهيمنة السياسية دولياً.
وفيما يخص الشرق الأوسط، عاد بايدن إلى عدد من السياسات التي كان يتبعها الرئيس الأسبق باراك أوباما، الذي كان بايدن نائبه من 2009 حتى 2017. وأراد بايدن أن يواصل سياسة «الانسحاب» من الشرق الأوسط الأوسع، وعدم الانشغال به. وكان هذا ما يقوم به من بين التعهدات التي قطعها خلال حملته الانتخابية؛ وهو السعي لإعادة تفعيل الاتفاق النووي مع إيران الذي انسحب منه ترمب. ويعلم المسؤولون في طهران أن بايدن جعل العودة إلى الاتفاق النووي محوراً لترتيب سياساته الخارجية، ما أعطاهم نفوذاً أكبر في المفاوضات التي استؤنفت الأسبوع الماضي من دون إحداث أي تقدم، ولكن استطاعت طهران أن تواصل تنشيط اليورانيوم وإحراز تقدم في برنامجها النووي رغم الاحتجاجات الأميركية. أما فيما يخص العلاقات مع الدول العربية، فهي بالمجمل محدودة بسبب الانشغال الأميركي الداخلي، وعدم إرسال السفراء إلى عدد من الدول المحورية في المنطقة.
وعلى الرغم من تعيين بايدن عدداً من الشخصيات المعروفة للتعامل مع ملفات الشرق الأوسط، مثل منسق البيت الأبيض للشرق الأوسط بريت ماكغورك والمبعوث الخاص لليمن تيم ليندركينغ، فإن وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جيك ساليفان يبقيان تواصلهما مع المنطقة محدوداً إلى درجة عالية.
ولكن الحدث الأبرز في السياسة الخارجية الأميركية هي عملية الانسحاب المشينة من أفغانستان وتبعاتها اللاإنسانية. انهيار الجمهورية الأفغانية في 15 أغسطس (آب)، بعد عشرين عاماً من الجهود الأميركية والدولية لترسيخ نظام الدولة الحديثة فيها، أسبابه عدة، ولكن الأزمة الإنسانية التي لحقت بالأفغان سببها الأول الانسحاب غير المنتظم للأميركيين. وعلى الرغم من وعوده للحلفاء الأوروبيين في يونيو بأنه ملتزم بتحالفه معهم، لم ينسق بايدن مع أي من حلفائه في هذا الملف.
ادعاء بايدن بأن إدارته تولي اهتماماً بحقوق الإنسان في القرارات السياسية سقط مع سقوط الضحايا الأفغان الساعين للهروب من البلاد، وهم يمسكون بأجنحة طائرة يعلمون ستنتهي بهم بالموت.
مع ذلك، ينهي بايدن العام باستضافة «قمة الديمقراطية» التي تعدها الإدارة الأميركية فرصة لإظهار التزامها بـ«القيم». وعلى الرغم من فشل الولايات المتحدة في حماية حقوق الأفغان الذين تركوا ليلاقوا مصيرهم على أيدي «طالبان» التي فاوضتها واشنطن، وعلى الرغم من أن معتقل غوانتانامو ما زال مفتوحاً، فإن إدارة بايدن تصرُّ على أن سياساتها الخارجية تحدّدها سياسات حقوق الإنسان والديمقراطية. في الواقع، القمة الافتراضية المرتقب عقدها يومي الخميس والجمعة موجهة بالدرجة الأولى ضد الصين وروسيا، الدولتين اللتين لم تتم دعوتهما للحضور. ومن اللافت أنه تمت دعوة تايوان للمشاركة، ما يثير غضب الصين. إلا أن فيتنام لم تدعَ، إذ إنها ما زالت صورياً دولة «شيوعية». وأما منطقة الشرق الأوسط، فدعيت دولتان فقط: العراق وإسرائيل.
ليس من المتوقع أن تخرج هذه القمة بما يغير من سياسات بايدن شيئاً، لكنها تدل على نهج الإدارة الحالية. وبينما هناك تحديات دولية مثل التغيير المناخي ومكافحة وباء «كوفيد - 19»، يبدو أن بايدن لن يلتزم بوعود بشأن العمل الجماعي المبني على التعاون الدولي.
في الخلاصة يبدو أن الصين العامل الذي يشغل الأميركيين بالدرجة الأولى. من استضافة «قمة الديمقراطية» إلى الانسحاب من أفغانستان، تطور الإدارة الحالية غالبية سياساتها من منظور مواجهة الصين، من دون بلورة استراتيجية واضحة لكسب ثقة الحلفاء.