د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

القرارات المفصلية ومصائرنا

تبنى القرارات عادة على قاعدة ترجيح كفة المحاسن على المساوئ. ويعج التاريخ بقرارات مفصلية أسهمت في تغيير مسيرة الأحداث. فهذا القرار الذي كان محل تندر أو شك أو تردد نرى ثماره اليوم. فمن كان يتوقع أن الصراع المرير الذي واجه مؤسس شركة «أبل» ستيف جوبز، مع مجلس الإدارة وشكاوى الموظفين بأنه شخصية عنيدة لا يعجبها العجب، قد تمخض عن تأسيس أكبر شركة في التاريخ من حيث القيمة السوقية. وقد أثبت هذا «العنيد» رجاحة عقله ورؤيته في بزوغ نجم حقبة الهاتف الذكي عام 2007، الذي كان بداية صناعة هواتف غيرت وجه التاريخ. فصار العالم بأسره في جيبنا بفضل بساطة وعظمة منتجه، فصرنا نتابع أفراح العالم وأحزانه وأخباره لحظة وقوعها. واضطرت حكومات نامية إلى أن تقف احتراماً لهذا الهاتف الصغير بإجراء خدماتها عبره. وهو قرار مفصلي رسم مستقبل المعاملات الحكومية والخاصة.
رئيس الوزراء البريطاني اتخذ قراراً تاريخياً بتصديق ما قدمته عقول الإنجليز عندما كشفت آلتهم «أنيغما» الكلمات السرية في المخاطبات النازية، وصاروا يرسلون للألمان رسائل مضللة، ومنها عرفوا خطط عدوهم الألماني. فساهم هذا القرار في إنهاء الحرب العالمية، وتقليص أمدها الزمني لعامين، وكذلك تقليل ملايين الضحايا. ولولا ذلك القرار لجابت جيوش النازيين شوارع لندن. وقد اتخذ الفرنسيون قراراً دفاعياً تاريخياً في الحرب العالمية الأولى اعتمد على إنشاء خط «ماجينو» لتحصين قواتها من تقدم القوات الألمانية، حتى ما إذا حاول المهاجمون اختراقه وجه إليهم وابل من النيران الفرنسية الكثيفة. وهو ما فعله الجيش المصري مع خط بارليف الذي نصبه الكيان الإسرائيلي في قناة السويس، فتمكن المصريون من اتخاذ قرار اختراقه بناء على فكرة مهندس مصري اقترح آلية لعبور هذا الخط، واستخدام قوة دفع خراطيم المياه لإحداث ثغرات في السدود الرملية مكنت الجيش العربي من الوصول إلى الضفة الأخرى.
حتى على صعيد «البزنس»، يضطر مجلس الإدارة أحياناً إلى قرارات مصيرية محفوفة بالمخاطر بالاندماج أو التوسع رأسياً بشراء أحد الموردين (backward integration)، أو الاستحواذ على أحد أبرز عملائه الكبار من الشركات فيضمن إطالة أمد عقوده معها (forward). وعالم البزنس كله وغيره مدين لمن قرر منحنا نعمة الإنترنت بعدما قيل إنها كانت محصورة على جيش بعينه، فصارت الإنترنت عصب حياتنا العصرية.
لكل قرار مزايا وعيوب، لكن حالة اللاقرار والفوضى والارتجالية هي ما ندفع ثمنها غالياً. ولذلك كان من المهم بناء القرارات على حقائق أو مؤشرات وجيهة أو حدس موضوعي وبُعد نظر. ولا توجد قرارات كاملة بالضرورة، فبعضها يكمل القصور، أو يقلص المسافات، أو يسرع ببلوغ المرام، ومنها ما يقلل التكاليف والجهود المهدرة. إذن القرارات قد تكون جزئية لكن المشكلة تكمن عندما يرى متخذ القرار الحاجة لقرار عاجل ويتجاهله اعتقاداً منه بأن الوقت كفيل بحل المشكلات. وهذه عقيدة من يخشى المواجهة فيعلق آماله على سراب من الوقت.