إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

مهر جاذبية

في الشهر الماضي بيعت لوحتها الزيتية «الأبرياء» في مزاد «سوذبيز» الشهير في لندن. وفي العاشر من هذا الشهر فارقت الرسامة دنيانا. «افتكرها ربنا»، كما يقول المصريون، بعد أن عاشت 96 عاماً ولم تسأم. من الجمائل الالتقاء بإنسانة عاشقة للحياة مثل جاذبية سرّي، البولاقيّة المولودة في عشرينات القرن الماضي.
كانت تأتي بشكل دوري إلى باريس، بصحبة زوجها لـ«شحن بطاريتها». تزور المتاحف وتحضر حصص تجديد الطاقة. تستشير خبراء إدامة الشباب وتشتري أقراص الفيتامينات وتمشي بالساعات مثل صبية في العشرين. رشيقة خفيفة مبتسمة حاضرة النكتة. والزمن مع جاذبية هانم لا يقاس بالأرقام. إنها من نوع البشر المحظوظين الذين يمكنهم أن يختاروا سنوات عمرهم. مثلها مثل الشاعرة العراقية التسعينية لميعة عباس عمارة التي رحلت قبل أشهر. كتبت لميعة في إحدى قصائدها: «أنا عمري الثوب ألبسه».
عند لقائنا كانت تقيم معرضها الشخصي السادس والأربعين في صالة «تير دو ماريه». عاشت حتى زاد عدد معارضها على السبعين. وكانت في فترة من الفترات تقيم ثلاثة معارض في العام. رسمت نساء الحارات بفساتينهن الملونة ووجوه أطفالهن المترعة والناضبة. أسلوب يتطور ويتجدد مع المراحل. أول ما يجذب النظر في لوحات جاذبية الألوان الساطعة. أحبّت الرسم إلى درجة اعتباره حاجة عضوية، مثل الخبز والماء والحب والصيد. كانت تشرب اللون وتشعر بأن جسدها قادر على امتصاصه. ومن هنا نفهم غزارة إنتاجها وكثرة معارضها. اكتسبت مع السنين خبرة جعلتها ترسم بسهولة. لا تخطئ في الشكل ودرجات التلوين. شرطها الوحيد هو أن تكون مشحونة مثل البطارية. قلقة ومتوترة وتكاد تنفجر في الحياة إذا لم تنفجر على قماشة اللوحة.
كانت تهرب، في طفولتها، إلى فرع من النيل في الفيوم اسمه بحر يوسف. تصطاد السمك مع أولاد الفلاحين وترجع إلى البيت لكي تنال «علقة». تعترف بأنها ضُربت في حياتها كثيراً ولأسباب عديدة. كبرت وكبر معها عشق الصيد. قامت برحلات نهرية في مركب صغير، ثم تشاركت مع أصدقاء في يخت يجوب البحرين الأبيض والأحمر. اصطادت المرجان الوردي وكانت تفضل سمكة الشعور، فضيّة اللون.
درست الفنون الجميلة في القاهرة. ثم في باريس على يد الرسام والنحات مارسيل غرومير (1892 - 1971). واصلت تدريبها في روما وتعرفت على الفنان العراقي الرائد جواد سليم (1919 - 1961). تذكر أنه كان «شخصية أصيلة متفتحة تحب الحياة بوحشية». لا شكّ أن الطيور على أشكالها تقع. كان يلتحق بجلساتهم الرسام الإيطالي البارز ريناتو جوتوزو (1911 - 1987). يتناقشون بالصوت وحركات الأيدي وجموح الشباب. عادت إلى مصر وانتمت إلى جماعات فنية ضمّت الكبار: رمسيس يونان وعبد الهادي الجزار وحامد ندا. لم تعتبر نفسها حائرة بين جيلين. شكّلت مع جمال السجيني وعز الدين حمودة جماعة الفن الحديث. آمنت بالجمع بين الحداثة والواقعية الاشتراكية. ترسم وتشتغل في التدريس لعشرين عاماً. تمنح خبرتها لآلاف الطلاب المصريين والعرب. ثم تتفرغ للفن وتنال كل الجوائز. «من حقي أن أعيش لنفسي حبّة...».
تمسكت جاذبية سرّي بحريتها وتأخرت في الزواج. كان من الصعب أن تجد رجلاً يفهمها ويقبل بنمط شخصيتها. امرأة صغيرة القامة بشعر قصير تتحرك مثل نابض الساعة. الزنبرك. قالت: «لا تحكمي علي من شكلي الصبياني فأنا في الحقيقة أنثى جداً. تزوجت بمهر رمزي قدره 25 قرشاً». امرأة لا تقدّر بثمن.