حنا صالح
كاتب لبناني
TT

«حوثيو لبنان» دفعوا البلد من البؤس إلى القطيعة!

مرّت خمس سنوات على وصول ميشال عون إلى بعبدا نتيجة «توافق» سياسي انتهازي متخلٍّ، كان عنوانه «تسوية» وجوهره «مقايضة» مع «حزب الله»، لإيصال مرشحه الوحيد إلى سدة الرئاسة، مقابل مقاعد وحصص في الحكم! خمس سنوات هي الغربة الأطول في تاريخ لبنان بين الرئاسة والبلد وهموم أهله. لم يتحقق خلالها أي إنجاز للناس، ولن يجد المؤرخ الموضوعي من تسمية لها إلا حقبة البؤس والاقتلاع. وشكّل سقوط الدولة التي اختطف قرارها بالسلاح، وغياب المؤسسات، المدخل لانتهاك حقوق المواطنين فأطلت شريعة الغاب مع التجرؤ الفظ على محاولة حجب الحقيقة ومنع العدالة في جريمة تفجير المرفأ!
تهل السنة السادسة والأخيرة من العهد على وقعٍ مختلف، نقل لبنان من حالٍ إلى حال. فإلى كارثة الانهيارات العامة المعيشية والاجتماعية، زحف الجوع مع اتساع البطالة، كما تدهور الوضع الاقتصادي بشكلٍ مريع، وحل إفلاس البلد بعد نهب ودائع للناس هي جني أعمار أكثر من مليون ونصف المليون عائلة. بات لبنان القديم، لبنان ساحة اللقاء لا المواجهة أثراً بعد عين. كان جامعة المنطقة ومستشفاه وبلد البحبوحة، ففقدت جامعاته بعض خيرة الكفاءات التي ميزتها وبعضها الآخر متعذر أن يفتح أبوابه، فيما أقفلت مستشفيات ويموت المرضى أمام أبواب الأخريات. ليتم استقبال السنة السادسة بكارثة تاريخية عندما أوقعت منظومة الارتهان المتحكمة، لبنان، في القطيعة مع السعودية وبلدان الخليج العربي! الأمر الذي سيعني مفاقمة التنكيل باللبنانيين، الذين سيجدون أنفسهم أمام حتمية تدفيعهم أعباء لا طاقة ولا قدرة لهم على تحملها، وكل ذلك نتيجة سياسة رعناء متبعة سلمت قرار البلد إلى «حزب الله» وللأجندة الإيرانية!
الأمر اللافت، أن الفشل الذي لفّ السنوات الماضية، وصنّف عهد عون بأنه الأسوأ في تاريخ الجمهورية، فإن خصوم العهد لم يتمكنوا من تحقيق أي نجاح، لا من خلال المشاركة في الحكم ولا في إقامة معارضة حقيقية تقوّم الاعوجاج. كان يمكن لو وجدت معارضة «وطنية»، أن تسهم في كبح جوانب من الانهيارات، وكذلك الحد من استباحة البلد، ممن جعلوا لبنان، المكان الذي يحتضن النشاطات السياسية والإعلامية المعادية للسعودية وبلدان الخليج، ويدعم الدور الإيراني في اليمن. في هذا «العهد الميمون» ترسخ موقع لبنان كمنصة إعلامية لتلفزة الحوثيين وأضرابهم، ومحطة لتصدير السموم في استهداف خطير لأمن المجتمعات الخليجية، ما قرع ناقوس الخطر، والتنبيه إلى المخاطر التي تحدق بمصالح لبنان ومواطنيه، لكنهم مضوا في المراهنات والتذاكي خدمة لمصالح خاصة، فأثبتوا أنهم كطبقة سياسية فقدوا صلاحيتهم وأهليتهم الوطنية.
أمر يفوق المعقول والتصور والتوقع، كان التعاطي الرسمي مع القرار السعودي الكبير، وقد قضى بعزل خليجي تاريخي للبنان، وهو أمر لم تبلغه يوماً علاقات لبنان مع أي جهة فكيف مع السعودية وبقية بلدان الخليج العربي؟ من اللحظة الأولى كان جلياً أن استفحال الأزمة في لبنان هو نتيجة لهيمنة «حزب الله» وسياساته، والأجندة التي ألزم بها كل الآخرين ولو بتفاوت. ومع أن القطيعة مع بلدان الخليج التي تحتضن مئات ألوف اللبنانيين، أحدثت زلزالاً بالنسبة للمواطن العادي، لكن لبنان الرسمي اختار ألا يفعل شيئاً! استمر التعامي والتغافل والتجاهل وأيضاً الخنوع، ولم ترسل بيروت أي إشارة تفيد بأنها بصدد شيء ما، ولو من باب الحرص على مصالح لبنان واللبنانيين، ولم تتم أي محاولة لتدارك المقاربة الخاطئة في التعاطي مع سلوك حديث نعمة كوفئ لتصريحاته العدوانية بمقعد وزاري. كان يمكن لإقالة جورج قرداحي الفورية لو حدثت، أن تفتح كوة ما أو باباً للوساطة أو حتى الحديث المباشر، رغم الجدار السميك من القضايا المتراكمة، الذي أوجدته سياسة الارتهان، لكن الممسكين شكلاً بالقرار اختاروا تعميق الحفرة التي دُفع إليها لبنان!
ركز الموقف السعودي المعبر عنه في بيان وزارة الخارجية، وكذلك في تصريحات وزير خارجية المملكة، على أن مكمن الأزمة في هيمنة «حزب الله» ومن خلفه طهران، على القرار السياسي اللبناني، وأنه لا «جدوى» في التعامل مع لبنان. يعني المطلوب الذهاب إلى الأساس الذي تسبب في تفجر الوضع، والأساس هو النهج المبرمج الذي أُملي على لبنان، لاقتلاعه وتحويله إلى رأس حربة في مخطط «إيران الكبرى» ضد المنطقة، الذي فرض على البلد قسراً أن يصبح قاعدة متقدمة لتدخلات «فيلق القدس» العسكرية!
كان جدول الأعمال المفترض أن يضعه ميقاتي، بوصفه رئيس السلطة التنفيذية، وقد منحه الدستور أوسع الصلاحيات، أن ينطلق من التمسك بالاستقرار والسلم والحرص على مصالح البلد ومصالح أبنائه، وما من جهة عربية طلبت غير ذلك. تعدى الأمر إقالة من استحق لقب الوزير الحوثي الذي ما كان يجب أن يوزر، ولا يُسمح بأن تُضخم قضيته كما حصل، إلى الإعلان أن الحكومة عازمة على وضع حدٍّ لنهج قطع علاقات لبنان مع العرب، خصوصاً مع دول الخليج. لكن ميقاتي لم يقدم على اتخاذ القرار الأكثر شعبية ولا على تحمل المسؤولية، فاستسلم لمقولة إن قرار البلد ليس في المؤسسات الدستورية، وراح يستجدي الوساطات من بيروت إلى غلاسكو، فسمع كلاماً منمقاً، وأسئلة عن تغييبه للموقف وتنكره لمسؤوليته في اتخاذ القرار في التوقيت الصحيح. إن نهج «التذاكي» وسياسة «اللعم» سيكلفان البلد ما هو فوق طاقته!
في كل هذه المعمعة اختار عون الابتعاد إنما بالشكل، فألغى الكلمة التقليدية في 31 أكتوبر (تشرين الأول) لمناسبة مرور السنة الخامسة على وصوله إلى القصر. اكتفى بالعموميات ومعسول الكلام، عن «الحرص على أفضل العلاقات»، ولم يخبر الناس كيف تكون ترجمة هذا الحرص، لكن رئاسة الجمهورية التي بدت في غربة عن أخطر تحدٍّ واجهه لبنان في تاريخه، تحكم في أدائها حسابات ضيقة مرتبطة بإحياء مشروع التوريث. تكرر الأداء إياه في التغاضي عن الدفع لربط مصير لبنان بمشروع التسلط الإيراني، ومعروف دور الرئاسة في تغطية مخطط تضييق الهامش بين «الدويلة» والدولة، وكيف كان التغاضي عن سياسة تغليب الهيمنة الطائفية لـ«حزب الله»، ومشاركته في تهميش بقية المكونات، والهدف ضمان الرئاسة مكافأة لصهره جبران باسيل!
لا يتحمل لبنان مضاعفات دور «حزب الله»، ولا الأجندة التي ينفذها، والرامية لاقتلاع لبنان واستسهال التلاعب بهويته، والإعصار الذي يمثله القرار الخليجي الذي يتصاعد نحو قطيعة اقتصادية، إن لم يحدث استفاقة لبنانية يمليها هاجس بقاء الدولة كضرورة وهدف، فمنحى البحث عن مقايضة على رأس قرداحي سيسقط البلد أكثر في القبضة الإيرانية. والأكيد في ظروف هزال الطبقة السياسية وخنوعها وتبعيتها، فإن القوة الأبرز رغم الصعوبات، تبقى ثورة «17 تشرين» الشعبية والشابة والسلمية، التي بلورت وعياً وطنياً، وحازت أوسع التأييد. هي اليوم الشبح الذي يقض مضاجع المتسلطين، رغم تعرضها للتخوين والتنكيل من جانب «حزب الله»، وحركة أمل، كما استهدفت من منظومة الحكم و«قضائه»، تبقى، رغم المراوحة الآنية، الجهة القادرة على الاستقطاب والثقة، وعليها يعول كأصلب جهة لاستعادة البلد، دولة ودستوراً وقانوناً، وطي صفحة النموذج الحوثي فيعود لبنان المكان المنفتح القابل للعيش!