عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الوسيلة تغتال الغاية

المقصود بالعنوان حالات نماذج تغلب الانشغال بالوسيلة، والانغماس فيها، على الغاية الأصلية. وتتراجع الغاية، بمرور الوقت، إلى خلفية الذاكرة الواعية (تخيل العقل كنشاط برنامج التشغيل - السوفتوير - للمخ كالكومبيوتر الذي تخزن فيه المعلومات، فيخرج من الذاكرة ما يحتاجه هذا النشاط فقط)، وتصبح الوسيلة أسلوب معيشة. وعندما يذوب الفرد في تيار أو جماعة احتجاجية يصبح المخ مجرد terminal محطة فرعية لنظام كومبيوتر عملاق للتيار أو الجماعة؛ فيفقد الفرد قدرته الذهنية على الاختيار (كغريزة المصلحة الشخصية وعلاقتها مع البيئة المحيطة) بل ربما تضمحل تفاصيل الغاية نفسها في خلايا تخزين الذاكرة الدماغية إلى مجرد شعار.
الأخطر، عجز الذهن الفردي (سواء المشارك في الحركة أو عضو مؤسسات المجتمع الأساسية المتعاملة معها كالبوليس، والصحافة، والرسميين في الوكالات العامة وساسة الحكومة) أثناء المرحلة الثانية من الحركات الاحتجاجية، عندما تمتزج الغاية بالوسيلة، قبل الوصول للمرحلة الثالثة (وهي اضمحلال الغاية في العقل الواعي إلى مجرد شعار)، عند الأجيال التي لم تشهد تأسيس الحركة بل توارثت الوسيلة لا الغاية من الجيل الأول.
خطورة المرحلة الثانية في حالة الحركات الاحتجاجية أنها مرحلة عجز القدرة الذهنية على الفصل بين الغاية والوسيلة؛ وهي خطورة على الأفراد والمجتمع، وربما العالم الخارجي، إما باستدراج الفرد إلى خرق القانون، والعنف، والانخراط في منظمات إرهابية ابتداءً من اليسارين الراديكالي المتهور، والمتعاطف مع «جهاديي» الإسلام السياسي، إلى أقصى اليمين الفاشي، حيث تحل الوسيلة محل الغاية، التي قد تكون نبيلة في بدايتها، لكنها تورات وراء ضبابية وغيوم الوسائل التي تثير غضب واستفزاز شرائح كبيرة في المجتمع، وأحياناً ما ترد الفئات المتضررة من الاحتجاجات (أي الوسيلة) بوسائل أخرى قد تكون تصادمية مما يهدد السلام والأمن الاجتماعيين.
ما أثار السؤال كان تصاعد الاحتجاجات التي بدأت بهدف معلن هو حماية البيئة من التسخين الحراري. هذه الحركات تحولت إلى ما يعرف في الإنجليزية بالـcult، التي تتجاوز اليوم الترجمة العربية «طائفة دينية»، كما رأينا في النصف الثاني من القرن العشرين بغسيل مخ داخل المجموعة الآيديولوجية المنغلقة لترتكب ما لم يتصوره العقل: كاوم شينريكيو اليابانية التي أطلقت غازاً ساماً في مترو طوكيو في 1995؛ أو عشيرة تشارلز مانسون (1934 - 2017) الأميركية بارتكابها جرائم قتل ما بين 1969 و1971. أو قاعدة أسامة بن لادن (1957 - 2011). الـclut البيئية البريطانية أقنعت نفسها أن الإنسان وحده مسؤول عن التغيير المناخي، والحقيقة أن مساهمة النشاط الإنساني سبعة في المائة فقط (نصيب بريطانيا 00.0014 في المائة من التسخين الحراري العالمي أي 1 علي ثلاثين من مساهمة الصين). الطوائف البيئية تدعي أن احتجاجاتها حركة عصيان مدني سلمية، لكن عملياً نشاطات متطرفة، العديد من أساليبها يندرج تحت الإرهاب في التعريفات الكلاسيكية، «توظيف أساليب تمارس ضغوطاً على المجتمع بغرض ابتزاز السلطات لإجبارها على تغيير سياستها».
ولنتخيل سيناريو محتمل كعصيان مدني، «سلمي» بإخفاء المحتجين مفتاح باب كابينة سائق قطار «يلوث البيئة». إذا أعاق ذلك وصول كمساري القطار لإسعاف السائق أثناء أزمة قلبية قد ينتهي الأمر بحادثة جرحى وموتى ويصبح الاحتجاج «السلمي» عملاً إرهابياً.
انقسم الجدل في بريطانيا بأن إصابة السائق بسكتة قلبية في الفرضية مصادفة، ورأي آخر بأنه بديهياً ومنطقياً يكون دماء ضحايا الحادث في عنق المحتجين، خاصة إذا كانت إدارة السكة الحديد حذرت مقدماً من حوادث قد يسببها تعطيل مسار القطارات وهنا يندرج العصيان المدني «السلمي» تحت بند الإرهاب، بسبب النتيجة المتوقعة من الوسيلة المستخدمة.
اليوم هناك تياران احتجاجيان في بريطانيا يعرضان حياة الناس للخطر. الأول ما يعرف بـ«تمرد الفناء»، والذي أقنع نفسه وقسماً كبيراً من الصحافة، خاصة التلفزيونية، بأن العالم يواجه «حالة طوارئ مناخية»، والثاني انشق حديثاً عن الأول بلافتة «العزل الحراري لبريطانيا» تطالب الحكومة بتركيب مواد العزل الحرارية في كل بيوت بريطانيا. وحتى في حالة تحقيق المطلب، والذي تتجاوز تكاليفه الميزانية الكاملة للبلاد لسنوات قادمة، فإنه سيرهق الجميع خاصة الفقراء بضرائب فوق طاقتهم.
ومثل المجموعة الأصلية المنشقة عنها فإن نشطاء «عزل بريطانيا» كلها من الطبقات الميسورة ومن البيض (ليس بينهم أبناء مهاجرين) مستمرون لأسابيع في احتلال تقاطع الطرق ولصق أنفسهم بالصمغ. تعطيل المرور أدى إلى عرقلة وصول سيارات إسعاف وأطباء لمرضى، وتعطل وصول مرضى السرطان إلى مراكز تلقي جرعات العلاج في الموعد المحدد، معرضين الأرواح للخطر. المحتجون يبررون (للصحافة كمؤسسة تعاطفت مع الوسيلة قبل الغاية) أن معاناة المرضى «تضحية مؤقتة» من أجل هدف «أسمى» طويل المدى وهو حماية كوكب الأرض. نسي معظم الصحافيين أن يسأل أبناء الطبقات المرفهة ما هي التضحية التي يقدمونها بالضبط؟ من ظهر منهم على شاشات التلفزيون كانوا من المتقاعدين الميسورين (أي مسألة شغل وقت الفراغ) أو من الذين ورثوا ثروات، أي بلا عمل محدد. الاستثناء كان صبي دون الحادية عشرة جلس في التاسعة صباحاً بـ«يونيفورم» المدرسة على مفترق الطرق لعرقلة المرور بدلاً من حضور فصله الدراسي. البوليس أزاحه إلى الرصيف بلا تحقيق عن خرقه قانون التعليم بغيابه عن الدراسة أو مساءلة ولي أمره، أي تعاطفت المؤسسة الأمنية الرسمية مع «الوسيلة» بدلاً من تطبيق القانون وأحكام قضائية بمنع إغلاق الطرق!
ورغم تحول أغلبية المجتمع ضد هذه الجماعات، فإنها استمرت في الاحتجاجات التي أفقدتها التعاطف مع الرأي العام في أسابيع قليلة؛ دليل آخر على تلاشي الغاية نفسها من ذاكرتها الواعية لأن الوسيلة أصبحت نفسها أسلوب حياة وغاية. البرنامج اليومي لأفراد هذه المجموعة التي تحولت إلى طائفة طقوسها الخاصة أصبحت شعائر يومية بترتيب الانتقال إلى أماكن الاحتجاج (بسيارات ملوثة للبيئة). وإذا استبدلت اللافتة المعلنة اليوم (والتي تروجها مؤسسات صناعة الرأي العام كالعقيدة المقبولة بأنها «الخير» وما يخالفها «الشر») بأي لافتة أخرى، يمكننا تفهم كيف يتحول طفل أو شاب وديع مسالم يوماً إلى «جهادي» يرتدي حزاماً ناسفاً كوسيلة، هي الحياة والموت معاً، بعد أن نسي ما هي الغاية.