أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

أسئلة البحث عن استقرار المنطقة!

في الماضي، كان سهلاً القول إن الصراع العربي - الإسرائيلي، والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني هما السبب الرئيسي وراء الاضطراب في منطقتنا، وإن استقرارها لن يتقدم بزخم وثبات ما دام المجتمع الدولي يأنف عن حل هذا الصراع، وفرض تسوية عادلة للمسألة الفلسطينية، بينما تثير التطورات والوقائع اليوم، بضعة أسئلة لا بد أن يجيب عنها كل من يبحث عن إنهاء حالة عدم الاستقرار والاضطراب التي يعيشها الإقليم، وتخميد نار الصراعات المزمنة التي تشتعل فيه منذ عقود.
أليس أمراً بدهياً أن ننظر إلى استقرار المنطقة، من قناة التداعيات السلبية التي خلفتها أزمة «كورونا» على الاقتصاد العالمي، وخاصة لجهة رسم سياسة أميركية جديدة تجاه الشرق الأوسط، خصصت الأولوية لمواجهة صعود الصين، وما تملكه من إمكانات هائلة، ودفعت الأهمية الاستراتيجية للإقليم إلى مرتبة متأخرة؟ وألم يدشن الانسحاب العسكري من أفغانستان مرحلة جديدة تجاه المنطقة تختلف عما عرفناه في العقود المنصرمة، حيث كانت واشنطن هي القوة المحركة والمؤثرة في توجهات دول الإقليم وتفاعلاتها؟ وألم يغدُ عدم الاستقرار الإقليمي وما عرف بسياسة الفوضى الخلاقة، من الصفحات المنسية، وقد ثبت عجز واشنطن عن السيطرة على تداعياتها والتحكم في ما خلفته من نتائج سلبية وأضرار؟ ثم كيف سنتخفف من عدم اليقين والخلل في توازن حفظ الأمن والسلام مع وضوح ميل واشنطن للعب دور إشرافي والإدارة من بُعد، وتبدل وسائل حماية مصالحها المتشعبة في المنطقة، والتي كانت تتضمن قواعد عسكرية، وتعاقدات أمنية، واتفاقات تجارية واقتصادية هائلة، مكنتها من إبقاء غالبية الخيوط التي تحرك الأحداث في يدها؟ وأخيراً، ألا يحتمل أن نشهد في مستقبل قريب موقفاً أميركياً، كما تشير التقديرات، يسلم فيه البيت الأبيض مفاتيح المنطقة للاعبين محليين، ويترك لهم، الكل بحسب قدراته وإمكاناته، أدواراً في رسم مستقبلهم وعلاقاتهم، مع ما قد يخلفه ذلك من خلافات ونزاعات، بما في ذلك فسح المجال لدخول أطراف خارجية كروسيا وتركيا وإيران بفاعلية إلى مناطق الأزمات، وأوضح الأمثلة ما يحصل في العراق وسوريا وليبيا ولبنان؟
في المقابل لا تغفل على أحد حقيقة النظام الإيراني وميوله إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، وتوسله النزاع المذهبي وتصدير الثورة لتعزيز النفوذ الإقليمي وتالياً تسلطه داخلياً ودعائم استمراره، ما يشجع على السؤال، هل ثمة جدوى من الحديث عن تغيير هذا النهج التدخلي لحكام طهران، أو بالحد الأدنى، هل ثمة فرصة جدية لتغيير سلوكهم، كأحد الرهانات على تهدئة صراعات المنطقة وتمكين عوامل الاستقرار فيها؟ أم أن هذا الحديث هو ضرب من الخيال كونه محكوماً بنهج عتيق للسلطة الإيرانية وبنيتها الآيديولوجية والسياسية العصية على التغيير؟ ثم هل بالإمكان معالجة قضايا الاضطراب الإقليمي بشكل ناجع من خلال الحوار المباشر مع إيران؟ هل ثمة أمل كي تتنازل طهران عن دعمها لوكلائها الإقليميين وكف يدها عن لبنان أو العراق أو اليمن أو إخراجها من سوريا؟ ثم ألا يدرك كل عاقل التأثيرات الخطيرة على التوترات في المنطقة حين يتم إحياء الاتفاق النووي مع طهران من دون اشتراطات تحد من نزعتها التوسعية؟ واستدراكاً، هل يصح الرهان على تعايش متوسط الأمد مع إيران بوضعها الحالي وبما تحمله من مشروع للسيطرة والنفوذ، أم نحتاج أولاً إلى مستوى من التعاون الاقتصادي والسياسي بين دول الإقليم والعالم يضعف دوافع الوجود الإيراني، بشكليه، العسكري والميليشياوي، خاصة في الساحات الخاضعة لسيطرته حالياً، العراق وسوريا ولبنان، وبدرجة مختلفة اليمن؟
وفي هذا السياق، نسأل، هل فكر الداعون إلى تعويم النظام السوري القائم والتطبيع معه، بالمخاطر التي سوف تتركها اندفاعاتهم لإعادة تأهيله، على استقرار المنطقة؟ وألا يصح الاستنتاج بأن ما يبدونه من مرونة سوف يستغلها حكام دمشق كما هي عادتهم ليس فقط للخروج من مأزقهم الحالي، وإنما أيضاً لعودة حليمة لعادتها القديمة، ولممارسة الأذى والتدخل في شؤون الآخرين وتأجيج الخلافات ليعودوا إلى المنازعة على النفوذ الإقليمي؟ وبكلام آخر، ألا يرى أصحاب هذه الفكرة كم هو حجم الضرر على الاستقرار الإقليمي حين يتم التوافق على التطبيع مع النظام السوري، وإيجاد مكان له في المعادلات الإقليمية، ما يمكنه الإفلات من المحاسبة عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها، وخاصة استخدام السلاح الكيماوي، ويشجعه على مزيد من العنف ضد المدنيين، وتالياً تشجيعه وتشجيع حلفائه، للتهرب من تنفيذ القرارات الدولية وتحديداً القرار (2254) عدا عن أن تقدم مسار التطبيع الغربي أو العربي مع هذا النظام، بدون انتقال وتغيير سياسي من شأنه تضييع فرصة إجباره على تقديم التنازلات، وأولها في الملفات الإنسانية المؤلمة، وكذلك تضييع الفرصة لتوفير مناخ صحي لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وتخفيف انعكاس أوضاعهم ومعاناتهم في استمرار حالة عدم الاستقرار في المنطقة؟
صحيح أن فرص التغيير السياسي التي أثارتها موجات الربيع العربي في العقد الأخير سببت مناخاً من عدم الاستقرار، وطالت بتأثيراتها وتداعياتها جميع الدول العربية، بدرجاتٍ مختلفة، ثم بلدان الجوار، إيران وتركيا وإسرائيل، كما شجعت الدول الكبرى، الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، على الانخراط فيها والتأثير في مجرياتها ونتائجها، وصحيح أنه لم يعد من إمكانية كبيرة، في ظل توازنات القوى القائمة، لإنعاش قوى التغيير، ولإحداث تبدلات مهمة في المعادلات السياسية، وقد نجحت قوى الأمر الواقع والثورة المضادة في إعادة إنتاج سيطرتها وفرض منطقها، وتمكنت من تدمير النسيج الوطني وهتك البنى الاجتماعية وتفكيكها، كما الفتك والتنكيل، قتلاً وسجناً وتهجيراً، بالنخب السياسية والثقافية والكفاءات العلمية، لكن الصحيح أيضاً أنه يفترض بجميع الفاعلين الداخليين والخارجيين، الذين يتطلعون إلى استقرار راسخ للأمن والسلام في الإقليم رفض الاعتراف بهذه النتائج أو التعاطي معها والبناء عليها، فمثل هذا الاستقرار يبقى مؤقتاً وخادعاً، وكأنه نار تحت رماد أو أشبه بقنبلة موقوتة لا يعرف أحد متى تنفجر، ما دامت الشعوب المظلومة لا تزال محرومة من حقوقها البسيطة، وما دام ما تعرضت له من أشكال السحق والتمييز والاضطهاد، لا يزال يعتمل في نفوسها ويترسخ، يوماً تلو آخر، في ذاكرتها الجمعية.