فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

هل خرجت البشرية من طور المراهقة؟

في مقابلة معه قبل عشر سنوات من نهاية القرن العشرين، تحدث الروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا، عن تصوره لما سيكون عليه العالم في المستقبل، معبراً عن تفاؤله بمستقبل البشرية، التي تقدمت كثيراً عن الأمس، حين كان الناس «يمتشقون السيوف ويرتدون الشعر المستعار على رؤوسهم ويمتطون الأحصنة». لكنه في الوقت نفسه عبر عن اعتقاده بأن البشرية لا تزال تعيش مرحلة المراهقة، وأن عالمنا يمكنه أن يفنى حتى من قبل أن يصل إلى كامل شبابه.
ثلاثون سنة مرت على قراءة مورافيا هذه، ولا يزال العالم الذي تحدث عنه يتخبط في مراهقته. وكل من له عينان يستطيع أن يرى أن هذا الطور من عمر البشرية قد طال طويلاً ويطول. وإذا كانت المراهقة تعني على المستوى الفردي، ضمن ما تعني، التغيرات الجسمية والفسيولوجية والعقلية والاجتماعية والانفعالية والخلقية، وصراعات ضارية مع الذات والآخرين، فإن هذه السمات يمكن ببساطة إسقاطها على عصر كامل من عمر البشرية، منذ بداية القرن العشرين، الذي شهد حربين مدمرتين، وصعود النازية والفاشية، أبشع ظاهرتين في تاريخنا المعاصر، وغير ذلك من الفواجع الكبرى التي يسهب في الحديث عنها في معظم كتبه عالم الاجتماع البريطاني أريك هوبزباوم، الذي كان يكره ذلك القرن كره العمى كما يقال، مثل كثير من المؤرخين والفلاسفة والمفكرين.
إنه قرن استبدل بعقل القرن التاسع عشر بدائية الغرائز البشرية الجامحة، التي تعرف عنفوانها في فترة المراهقة غير المشذبة. كان قرناً لا يملك الشيء الكثير ليفتخر به، ولا تزال تجلياته المأساوية مستمرة.
صحيح أن التطبيقات التكنولوجية لا يزال في وسعها أن تقلب العالم على عقبيه، كما قال مورافيا في ذلك اللقاء، لكنها، وقد مر عقدان من القرن الجديد، فعلت ذلك بشكل معكوس: أوقفت العالم على رأسه بدل أن توقفه على قدميه. صحيح أن هذه التطبيقات أمدتنا بحيوية فائقة، كما في طور أي مراهقة بشرية، ولكنها حيوية مشتتة، ضائعة غالباً فيما لا ينفع، جائعة دائماً لأذهاننا، وعقولنا، ووجداننا، ولا تشبع حتى تتركنا رماداً. وإذا تجاوزنا هنا كل هذا التقلب والتخبط والعشوائية، وعدم التوازن المريع في هذه الحقبة من تاريخنا على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فإن الأزمة التي تأخذ بخناقنا، قبل أي شيء، هي أزمة معرفية، وهي أكبر أزمة معرفة في التاريخ، كما يقول عالم الاجتماع البلجيكي ديريك دي كيرككوف عن حق.
كانت طفولة البشرية بالنسبة لماركس هي المجتمع الأثيني، قبل صراع الطبقات. واحتاجت البشرية قروناً لتخرج من طفولتها. ويبدو لحد الآن أنها قد تحتاج قروناً أخرى لتغادر هذه المرحلة الحرجة في تاريخها لحين أن تصل إلى كامل شبابها، هذا إذا لم يطوها الفناء قبل الوصول إلى ذلك، كما قال مورافيا.
و«كامل الشباب» والوصول إلى مرحلة النضج لا يمكن أن يتحققا إلا عبر المعرفة العميقة بعالمنا الذي نعيش، وقوانين حركته واتجاهاتها، وطبيعة موقعنا فيه، ومعرفة أنفسنا أيضاً. غياب مثل هذه المعرفة، على المستويين العام والخاص، لا يمكن أن يقود سوى إلى مراهقة أبدية مضطربة، وقد يعيدنا في النهاية إلى الغاب، حيث كان الناس يمتشقون السيوف، ويرتدون الشعر المستعار، ويمتطون الأحصنة.