داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

رجل اسمه بوند... جيمس بوند

خلال ستة عقود متتالية، تحولت سلسلة أفلام الجاسوسية السياسية والأمنية التي تحمل عنوان «جيمس بوند» إلى ظاهرة ثقافية وفنية عالمية حاول كثيرون تقليدها بلا جدوى. وشهد الأسبوع الماضي إطلاق الفيلم الخامس والعشرين في هذه السلسلة، وهو بعنوان «لا وقت للموت». والفيلم الأخير، وهو الخامس الذي يمثل فيه شخصية بوند النجم دانيال كريغ، وسيكون الظهور الأخير له في هذه الشخصية، جاء بعد تأجيل عرضه عدة مرات خلال عامين بسبب القيود المفروضة على صالات السينما للحد من انتشار جائحة «كورونا». وهذا الفيلم من أطول أفلام جيمس بوند، إذ يستغرق وقت عرضه 163 دقيقة، ولا تُعرض قائمة أسماء ممثلي الفيلم إلا بعد نصف ساعة من بدايته؛ حتى في هذه الجزئية الفنية الروتينية هناك تشويق وإثارة لاهتمام المشاهدين على طريقة جيمس بوند.
قلت في بداية المقال إنه فيلم جاسوسي سياسي أمني لأنه يرتبط منذ أول السلسلة بجهاز الاستخبارات البريطاني (MI 6)، ومقره في مبنى فوكسهول كروس بلندن. وفي تصريحات للنشر، من دون ذكر أسماء عاملين في هذا الجهاز الحساس، تقول إحدى الضابطات إن هناك تشابهاً ضئيلاً جداً بين جيمس بوند وواقع العمل لدى (SIS)، وهو الاسم المختصر لوكالة التجسس الخارجية البريطانية.
ومن الأسئلة المهمة في المقابلة: هل يحمل ضباط التجسس البريطانيون أسلحة نارية؟ لكن لا يوجد في الإجابة تأكيد بنعم أو نفي بلا؛ هل هناك جاسوس يعمل بمفرده؟ يجيب ضابط من الوكالة: «فكرة وجود رجل يشق طريقه في جميع أنحاء العالم وحيداً وهو يطلق النار على الناس هي لعنة مطلقة بالنسبة لنا؛ شخص مثل هذا ببساطة لن يدخل من باب جهاز الاستخبارات».
ويستدرك الضابط: «في المناطق الأكثر خطورة من العالم الحقيقي، وليس السينمائي، من الطبيعي أن يتم تسليح العاملين لحسابنا، أو تجهيز شخص قريب جداً منهم بالأسلحة. وفي كل أجهزة المخابرات، هناك ضباط وهناك عملاء. والضباط هم الذين يُقنعون العملاء بالعمل في أماكن حساسة، مثل خلية تخطيط لهجوم إرهابي، أو منشأة أبحاث نووية تابعة لدولة معينة، أو للقيام بسرقة أسرار حيوية أجنبية نيابة عن الحكومة».
ونفهم من هذه التصريحات الإذاعية أن شكل التجسس قد تغير بشكل لا يمكن تخيله منذ فيلم جيمس بوند الأول قبل 60 عاماً (دكتور نو). فلم يكن موجوداً في ذلك الوقت الهاتف الخلوي أو الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ولم تكن المخابرات البريطانية نفسها بهذا الشكل حتى عام 1994. لقد اختفت اللحية المزيفة والنظارات السوداء والبالطو الأبيض وجواز السفر المزور لتجاوز الحدود أو الدخول إلى منطقة محظورة على الأجانب. اليوم، يتم التعرف على قزحية العين والبيانات والذكاء الصناعي والتشفير والبيانات «البيومترية» استناداً إلى سماتهم البيولوجية والسلوكية، مثل بصمات الأصابع أو طريقة السير أو الكتابة.
وفي فيلم «لا وقت للموت»، نرى جيمس بوند لا يتوقف عن شرب «المارتيني»، وهو خليط «كوكتيل» من بعض الخمور، كلما دخل إلى مكان فيه قنينة خمر! كيف يعمل وهو سكير؟ يقول المسؤولون في جهاز الأمن الداخلي البريطاني إن هذه الصورة النمطية السينمائية التي يشتهر بها الجواسيس من عملاء الجهاز ليست حقيقية.
ومن الطبيعي إذن أن تختلف صورة الجاسوس في ذهن المشاهد الذي يهتم بكيس «بوب كورن» بين يديه أكثر من حرفية الجاسوس أو المخبر السري أو رجل المهمات الصعبة. وبشكل مباشر صريح، يقول رئيس جهاز المخابرات البريطاني إن «(العميل 007) لا يصلح أن يكون جاسوساً بريطانياً»، ويضيف: «إن الجواسيس الحقيقيين بإمكانهم التصدي لكل التحديات الأخلاقية في أكثر البيئات المحرمة على وجه الأرض، ما يستبعد شخصية العميل السري بوند لأنه يفتقر إلى الوازع الأخلاقي القوي».
وقال المسؤول البريطاني الرفيع المستوى، في مقابلة نشرها موقع «بلاك هيستوري مانث» الإلكتروني: «على عكس جيمس بوند، فإن عملاء (إم آي 6) لا يلجأون إلى الطرق المختصرة أخلاقياً، ويمكن القول إن جيمس بوند لن يجتاز عملية التجنيد لدينا من أول من أدى الدور، باري نيكسون (1954)، ثم شون كونري الذي توفي في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، وبعد ذلك جورج لازينبي، ثم روجر مور وتيموثي دالتون وبيرس بروسنان ودانيال كريغ».
قد لا نتفق في الرأي مع رئيس الجهاز السري البريطاني في قوله إن «عملاء جهازه الحقيقيين يحملون صفات البطولة والحماس والصلابة التي يتسم بها بوند، لكنهم يحتاجون لخصائص إضافية ليست موجودة في الشخصية التي لعبت البطولة في أفلام بوند الناجحة».
وإذا فتحنا الخريطة السينمائية، سنجد أن المخابرات المركزية الأميركية من أكثر الدول إنتاجاً لأفلام الجاسوسية والاشتباك الأمني الدولي، سواء في السينما أو التلفزيون. وتملك هوليوود وسائل وطاقات وشعبية سينمائية أكبر من تلك التي تملكها السينما البريطانية أو الفرنسية أو الروسية أو الصينية أو اليابانية أو الألمانية أو الإيطالية... أو حتى الهندية. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة تتفوق على نفسها في المبالغة بتشويه صور الشعوب الأخرى وغفلتها وجهلها؛ الكذب والإثارة والتشويه سلاح ذو حدين.
وأنا أضرب هنا مثالاً ما زال ساخناً عن الأفلام السينمائية التي أنتجتها هوليوود، بالتعاون مع المخابرات الأميركية أو الجيش الأميركي، لإظهار الجيش الأميركي بصورة المنقذ المتطوع في سبيل الله الذي جاء إلى العراق على بعد نحو 10 آلاف كيلومتر لإنقاذ الشعب العراقي من نظامه «المدجج بأسلحة الدمار الشامل»، واكتشف الجميع الأكذوبة الكبرى التي لم يصدقها غير الرئيس الأميركي جورج بوش (الابن)، صاحب مقولة: «المهمة انتهت»؛ وقد انتهت فعلاً لصالح إيران. ومن هذه الأفلام «الصدمة والترويع» و«الرجال الذين يحدقون في الماعز» و«المنطقة الخضراء»، وأكثر من عشرة أفلام أخرى ومسلسلات تلفزيونية.
وبين الأفلام الأميركية عن تلك الحرب المجنونة، ثمة أفلام نستطيع أن نقول إنها «منصفة»، مثل فيلم «أفعال محظورة»، عن جرائم الاغتصاب في مدينة المحمودية (جنوب العراق)، وكان المجرمون فيها جنوداً أميركيين قتلوا الضحايا بعد جرائمهم القذرة؛ وفيلم «قناص أميركي»، عن مجند أميركي هوايته قتل المارين في الشوارع بلا سبب، وهو فيلم في قائمة الأفلام الأميركية المناهضة للحرب العدوانية؛ وكذلك فيلم «وداعاً بغداد»، و«الجدار» الذي يحكي قصة جنديين أميركيين في مهمة قنص عسكرية في بغداد يقعان في فخ قناص عراقي قتل أحدهما وأصاب الآخر الذي رفض قتله، بهدف جلب جنود أميركيين آخرين لإنقاذه كي يقتل بعضهم.
جيمس بوند ليس وحده من يرتكب جرائم بالجملة في أفلامه؛ بوش وبلير ونتنياهو وقاسم سليماني فعلوا ذلك أيضاً في العراق وأفغانستان وفلسطين.
في معظم الدول، هناك من يتولى فحص مشاريع الأفلام العسكرية والجاسوسية والأمنية للحفاظ على الروح المعنوية للجنود، والحرص على عدم تسريب معلومات سرية ضارة. وأعتقد أن الجيش الأميركي يفعل ذلك، إذا لم تقم بالمهمة وكالة المخابرات المركزية الأميركية أو جهة أمنية أخرى.
وأختم المقال بفيلم إنساني يحمل اسم «المبعوث»، وهو عن ضابط في الجيش الأميركي يتم تكليفه بإبلاغ عوائل الجنود القتلى لتسلم الجثث. ويقع هذا الضابط في حب سيدة أبلغها نبأ مقتل زوجها، ثم تزوجها، فكان الرابح الوحيد من الحرب!