سليمان الحربش
TT

الدبلوماسي: ذلك الطائر الفريد

هذا التشبيه مقتبس من أحد أعمال الاقتصادي الشهير اللورد كينز، في وصفه لفئة عُليا من علماء الاقتصاد أطلق عليها: «The Master – Economists»، وهو الذي يعرف ويغرف من كل فروع المعرفة ما يُمَكنه من أداء مهمته.
وجدت ونحن في عالم تحاول الدبلوماسية أن تمسك بزمامه، أن هذا التعريف ينطبق على من يزاول مهنة دبلوماسية قيادية، كرئيس بعثة لدى دولة أخرى أو رئاسة منظمة دولية.
لكن الدبلوماسي الجدير بمركزه يحتاج إلى أكثر من ذلك، لماذا؟ الدبلوماسية أكثر المهن تأرجحاً بين العلم والفن، فهي علم يدرس في الجامعات ضمن مادة القانون الدولي والعلاقات الدبلوماسية وعلم العلاقات الدولية، وكثير من الدول لا تبعث مندوباً يمثلها خارج حدودها ما لم يكن ملماً بواجباته، كما تضمنتها اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961.
لكن للدبلوماسية جانب فني يُكتسب بالتدريب والتأهيل، قبل أن يباشر المبعوث أو رئيس المنظمة عمله عند الدولة المضيفة.
والدبلوماسي الناجح هو الذي يتغلب عنده الجانب الفني للدبلوماسية على الجانب العلمي.
إذن الدبلوماسية فن لأنها تعتمد على المواهب الشخصية للدبلوماسي وقدراته على الاتصال بالآخرين، وكسب الصداقات واستخدام القواعد الدبلوماسية بحذق ولباقة، مع الإلمام بقواعد السلوك وآداب اللياقة والمجاملة، وكثير ممن نبغوا في هذا المجال لم يمروا بأي تعليم منهجي.
قد تبدو هذه القواعد بديهية ولا تحتاج كل هذه المقدمات، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، فأنا أكتب من واقع تجربة دامت خمسة عشر عاماً وما زالت مستمرة في إحدى العواصم الأوروبية، وهي فيينا، التي تستضيف عدداً من المنظمات الدولية، هناك من وجدوا أنفسهم دبلوماسيين بين يوم وليلة، بصرف النظر عن جنسياتهم، لا يبدو أنهم يعيرون تلك البديهيات أي وزن، فبعض من وضعت حكوماتهم ثقتها بهم ما زالوا يحتفظون بأعمالهم التي كانوا يزاولونها في بلدانهم، ومنهم من لا يحفل بأبسط قواعد الدبلوماسية، مثل استقبال سفراء الدول الأخرى، أو حضور المناسبات الرسمية للدول الشقيقة والصديقة، بما في ذلك الأعياد الوطنية، ويزداد الأمر سوءاً عندما يُنقل عن بعض الدبلوماسيين الاستهانة بتراث وثقافة الدولة المضيفة.
هذه الآفة الدبلوماسية وما تسببه من حرج للدولة المعتمِدة والدولة المعتمد لديها، لم تسلم منها بعض الدول العربية الممثلة لدى الحكومة النمساوية، بحيث أصبح البحث عن علاج أمراً تحتمه المصلحة العامة. والحل يكمن في ثلاثة مناهج:
الأول هو أن نسلم منذ البداية أن المؤهل العلمي لأي وظيفة خارج الحدود لا يكفي للترشيح.
والثاني هو إفهام المرشح أن عمله خارج بلاده يتطلب التفرغ التام له.
والثالث هو إخضاع المرشح لبرنامج مكثف في فن العلاقات العامة، يشمل فن الحديث والمقدرة على الاتصال والثقافة العامة حول تاريخ العلاقة بين بلاده وبين الدولة المعتمد لديها، وبعض التفاصيل البروتوكولية التي لا بد منها. وهذا ممكن جداً في وزارات الخارجية أو المعاهد الدبلوماسية التي صارت في كثير من الدول جزءاً من ديوان الوزارة. وغني عن القول إن اختيار المرشح لأي وظيفة خارج الحدود من قبل وزارات الخارجية، سيساهم في حل المشكلة التي شرحناها وما ترتبه من حرج للدولة المعتمِدة والدولة المعتمد لديها المبعوث.
يقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام في سورة القصص «وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِقُنِي إِنِي أَخَافُ أَن يُكَذِبُون»، والآية واضحة الدلالة تكرر معناها في سورة طه، وفحواها أن بعض المهمات يعتمد نجاحها على مقدرة المرء على الاتصال مع الآخرين، وهي لعمري أهم سمة يحتاجها الدبلوماسي لأداء مهمته، ومن أصدق من الله قيلا.