خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

لبنان الحكيم... والفرق الدقيق الشاسع

مررت في زيارتي الأولى إلى لبنان -بداية الألفية- على منطقة «سوليدير» وأُعجبت بها، لا سيما بعد أن عرفت تاريخها. مثّلت لي في جانب تجسيداً للانتقال من دمار الحرب الأهلية أو من حالة «السلم الأهلي البارد»، على حد تعبير د. وضاح شرارة، ومن جانب آخر كانت تعبّر عن رؤية التغيير التي كنت ولا أزال مقتنعاً بها: تجميل أي حيز قابل للتجميل، ثم الانتقال منه إلى الذي يليه، فالذي يليه، لخلق فجوة في الطموح. نشاط أيوني يحفّز الحراك الاجتماعي.
لكنّ كثيراً من أصدقائي لم يحبوا المنطقة، لأنهم لم يحبوا رفيق الحريري. الأسباب كلها قيل وقال، متبوعة بإشارة إلى أني لا أفهم الداخل اللبناني وردٌّ منّي بأن عين الغريب أحياناً أفضل من عين المعتاد لأنها تلتقط المحصلة.
كان عدم إبداء مشاعر جيدة تجاهه يبدو كأنه نوع من الواجب «الثقافي»، يدل على «عمق النظر». هذا مع الحريري. الوضع يختلف مع الشخص الآخر الذي كنت أعدّه سياسياً حكيماً. كان رصيده من العدائية جهرياً وضخماً.
سمير جعجع كغيره من قادة الحرب اللبنانية تورط في أعمال منفّرة. الحرب الأهلية فعل منفّر في حد ذاته. المناصرون فيه يرون أخطاء الغير ولا يرون أخطاء فصيلهم. هل يرى أهل كوكب حجمه إلا لو ابتعدوا عنه؟! لذلك، وبعين الغريب أيضاً، كنت قادراً على تجاوز الدعاية التي خصّت فصيلاً معيناً في الحرب بالأوصاف السلبية، بينما بيّضت سجلّ فصائل أخرى. في شخص سمير جعجع رأيت صفتين لم أرهما في غيره: الأولى هي الوضوح. عذراً لكل أصدقائي اللبنانيين، الوضوح في لبنان عملة نادرة. المصريون أيضاً لا يخبرونك بما يريدون مباشرةً (نلاوع، كما نقول في مصر)، لكننا نفعل هذا وهو مكتوب على وجوهنا. أما اللبنانيون فيتحدثون بالشفرة. شفرة لا يفهمهما سواهم. ولأنهم يتحدثون بالشفرة فليس في الأمر كذب. لو قالوا «الخبرية» مع جهاز كشف الكذب فلن ينزعج ولو قليلاً.
الصفة الثانية التي أدركتها في سمير جعجع هي ما جعلت كنيته «الحكيم» أكبر من مجرد مهنة سابقة. سمير جعجع كان مرناً في اتفاق الطائف، مدركاً أن انتهاء الحرب منوط بالتسويات والتنازلات. كأي تفاوض في العالم. اتفاق الطائف ليس اتفاقاً مثالياً، لكنه أفضل ما كان ممكناً وقتها، بالنظر إلى شبكة التداخلات. وفي نفس الوقت كان الزعيم الذي رفض الإخلال بـ«الطائف»، ودفع لذلك ثمناً سياسياً لم يدفعه غيره: المحاسبة على جرائم في الحرب الأهلية.
صرت إن سألني أحد عن انتمائي السياسي في لبنان أقول ضاحكاً: «قوات». وأنا طبعاً لا أعرف الكثير عن تركيبة «القوات اللبنانية». لكنني على السمع التقطت مقولة تمدح قيادة «القوات» وتتخوف من قواعدها، بينما تمدح جمهور التيار الوطني وتذمّ قيادته.
لي أصدقاء في التيار الوطني الحر مهذبون ويشبهون خلفيتي الاجتماعية: طبقة وسطى متعلمة. المشكلة أنني لا أثق بالمتعلمين حين يأتي الأمر إلى السياسة، أثق أكثر بأصحاب المهن الحرة، من الحرفيين وصولاً إلى رجال وسيدات الأعمال. أصحاب المهن الحرة لديهم مؤشر ميزان أكثر حساسية يقرأ التغيرات السياسية وأثرها بشكل أفضل، ويفهم عاقبة الخيار السياسي بشكل أفضل، لأنها تنعكس عليهم مباشرةً. يُكسبهم هذا حس مسؤولية لا يتمتع به كثير من المتعلمين الممتلئين بحس الاستحقاق. ربما يعتقدون أن التعليم في المدارس والجامعات مصدر المعرفة الأفضل.
هذا الحس الاستحقاقي يتطور في اتجاه سلوكي. يريدون طبقاً من الشغّيلة تؤدي لهم «العمل القذر» الذي يأنفون منه. لا يحبون مثلاً أن يكونوا ميليشيا، لأنه عيب، وليس من مستواهم. لكن لا مانع عندهم من أن يتحالفوا مع ميليشيا. يعطونها البريستيج وتعطيهم الأيدي العاملة، ويكنّون في أنفسهم أن التخلص منها حين تحين مصلحتهم سيكون سهلاً وله تخريجة أكاديمية جميلة. في مصر رأينا هذا النمط كثيراً في النخبة المسيّسة وعلاقتها بميليشيات الإسلامجية.
العمل الحر، في عرضة مستمرة لتغيرات الريح، يُعلِّم الإنسان المرونة في التصرف، والتفكر في القرار. يعلّمه الفرق الدقيق، ولكن الشاسع، بين الصواب والصح. حيث الصواب هو التوجه صوب هدف نافع. لن يضمن النجاح في إصابته، لكنه يتحرك في الاتجاه السليم. ومستعد لتصويب الوضع إن اكتشف ابتعاده عن الهدف. الصواب يجيب عن سؤال: كيف نتصرف «حسب المعطيات»؟
أما الصح فهو قاعدة مسبقة، إجابة لا تختلف باختلاف الظروف. هي الحق وما غيره ضلال. جوهري يرفض التغيير، ومستعلٍ يرفض النقاش ويعتقد في الإرغام. هو الفعل الذي يعتقد أصحابه أنه الجيد لذاته، ودون النظر إلى نتائجه. المجاز الديني تعرّض لهذا الفارق، حيث الخضر يختار الصواب، أما موسى فتفكيره مقيّد بـالصح.
هذا «الصح والغلط» مفهوم سطحي، ثنائي، ضيق الأفق في النظرة إلى الحياة. أما «الصواب والشطط» فمفهوم متدرج، قد تدرك عين الصواب بسهمك، تحوز الدرجة النهائية، قد تشطّ عنه درجة، اثنتين، ثلاثاً، وقد تنظر في الاتجاه الآخر تماماً وترمي، لن تجد مبرراً لما فعلت. سنستطيع قياس جودة قراراتك بدرجات، حسب تحقيقها لهدف متفَق عليه أو بُعدها عنه. لا يمكن لشخص أو مجموعة أن تدير السياسة بمفهوم الصح والغط، أو الحلال والحرام. السياسة تدار بمفهوم الصواب والشطط.
الساسة في لبنان ليسوا استثناءً. بينما يعلنون للجمهور أن الغاية رخاء لبنان ترى بعضهم يرمي نحو هدف لبنان المستقل، المضيء، وفير الطاقة، الآمن، ويبنون تحالفاتهم وقراراتهم على هذا الأساس. قد يصيبون تماماً وقد يشطون أحياناً.
والبعض الآخر ينظر في اتجاه مختلف تماماً. في اتجاه هانوي وليس هونولولو... لا هم ولا جمهورهم يستطيعون الادعاء أنهم يفعلون ما «يصيب» الهدف. لكنهم يستطيعون للأسف الادعاء أنهم يفعلون «الصح»، إنْ العملية نجحت وإنْ مات المريض.