علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

في نقض هرطقات تآمرية

إن المؤتمر الذي عُقد بغاية سياسية وآيديولوجية أميركية لمواجهة التحدي الشيوعي بتكتل إسلامي مسيحي، هو المؤتمر الإسلامي المسيحي العالمي، الذي عُقد في بحمدون بلبنان بتاريخ 22 - 27 أبريل (نيسان) 1954. لكن هذا المؤتمر لا صلة لجامعة برنستون به، فجمعية أصدقاء الشرق الأوسط في أميركا هي التي دعت إليه. وقد جاء في نص دعوتها إلى المؤتمرين أن هدف المؤتمر «بحث النواحي الروحية والقيم المثلى التي وردت في تعاليم الدين، مبينةً عقم الفلسفة المادية الفانية. وإظهار وتحقيق أهداف الديانتين الواحدة، ومقاومة الشيوعية، ومكافحة مغرياتها الدنيوية وأغراضها المادية».
وفي اليوم الثالث من أيام المؤتمر، صرّح أحد المؤتمرين الأميركيين لإحدى الجرائد اللبنانية بأن «الولايات المتحدة تنظر بعين القلق إلى التطورات والأحداث الجارية في الشرق الأوسط، وترى من واجبها أن تقوم بكل ما في وسعها، كقائدة للدول الخارجة عن الستار الحديدي الشيوعي، للقضاء على الشيوعية التي أخذت تتفشى في الشرق الأوسط خصوصاً، بشكل مريع... وأن أمثال هذا المؤتمر من الضرورة بمكان، لتوطيد العلاقات بين دول الشرق الأوسط والولايات المتحدة، وللحؤول دون نجاح الحركات الشيوعية في هذه البقعة الحساسة من العالم، التي يعتبرها العالم الحر قطعة يجب أن تظل في جو مليء بالاستقرار». (الاستشهادات السابقة منقولة من مقال الماركسي اللبناني جورج حنا: «هرطقات فريسية»، الذي طبعه في كتيب صغير في «دار العلم للملايين» عام 1954).
وبسبب الغاية التي من أجلها عُقِد هذا المؤتمر، جُوبِه بهجوم عليه، وهجوم على أميركا وسياستها في صحافة لبنان وسوريا والعراق، من قِبَل ماركسيين وغير ماركسيين، واتُّهم المؤتمر بأنه قفز على القضية الفلسطينية وتجاهلها.
ومن داخل المؤتمر سعى المؤتمرون العرب، وهم ممن ينتمون إلى اتجاهات غير ماركسية، إلى ألا يكون المؤتمر محفلاً سياسياً أميركياً في العداء للشيوعية ولدول المعسكر الاشتراكي. وقد نجحوا في مسعاهم هذا؛ فلم يبحث المؤتمرون في السبل الناجعة لمكافحة الشيوعية. وخلت توصياته - كما يقول الماركسي اللبناني جورج حنا - من ذكر الشيوعية وضرورة مناهضتها، وهو غرض المؤتمر الأساسي، كما جاء في صميم الدعوة وتصريحات أقطابه.
أما اتهام المؤتمر بأنه قفز على القضية الفلسطينية وتجاهلها، فإنني لست على بينة من صحة هذا الاتهام؛ فالمؤتمر ضمن توصياته أشار إلى نكبة اللاجئين الفلسطينيين، وضرورة عودتهم إلى وطنهم عاجلاً.
حديثي عن هذا المؤتمر يأتي بغرض نقض معلومات عبد العظيم حماد التي اعتمد عليها في إطلاق نظريته التآمرية حول «مؤتمر الثقافة الإسلامية في علاقتها بالعالم المعاصر»، الذي رعته جامعة برنستون ومكتبة الكونغرس.
ولاستكمال النقض فيما يخص هذه المعلومة التي أتيت بها عن هذا المؤتمر، الذي لم يذكره في حيثيات نظريته التآمرية، سألفت نظره إلى أن هذا المؤتمر، مع أن غايته هي غاية سياسية وآيديولوجية معلنة، وهي صنع تكتل إسلامي مسيحي ضد الاتحاد السوفياتي ودول المعسكر الاشتراكي، ومع أنه أثير حوله جلبة في صحف لبنان وسوريا والعراق، فإن جمعية أصدقاء الشرق الأوسط عقدته مرة أخرى بعد فترة وجيزة في مصر. عقدته في مدينة الإسكندرية بتاريخ: 9 - 4 أبريل (نيسان) 1955، وعقدته جمعية أصدقاء الشرق الأوسط في أميركا في عهد جمال عبد الناصر، وهي الجمعية التي قال عنها مؤرخ ماركسي ناصري، هو رؤوف عباس، إنها إحدى واجهات الاستخبارات الأميركية. وقال عنها أيضاً مصطفى كمال طلبة، الخبير البيئي، في حوار صحافي أجري معه، إنها تابعة للمخابرات الأميركية.
قوله هذا الذي قاله في حوار صحافي أجرته معه الكاتبة والصحافية سهير حلمي في كتابها «عش النمل: حوارات وأسرار رموز السياسة والأدب والفن»، كنتُ أود أن أقف عنده بسبب المعلومات التي قدمها عن نفسه في هذا الحوار. لكن هذه الوقفة تستدعي تجلية مغالطات السياق الذي ورد فيه قوله إن جمعية أصدقاء الشرق الأوسط تابعة للاستخبارات الأميركية، وتستدعي الحديث عن الصلة بين هاتين الجهتين ونوعها. وهذان موضوعان سيبعدانني كثيراً عما أنا بصدد نقضه الآن. ولذلك سأرجئهما إلى موضع آخر، وأنتقل في الحديث إلى النقض الرابع.
النقض الرابع، هو أن مؤتمر «الثقافة الإسلامية وعلاقتها بالعالم المعاصر» الذي عُقدت جلساته في برنستون وفي واشنطن عام 1953، والذي اعتبره عبد العظيم حماد (نقلاً عن هيرمان آيلتس) المحطة الأبرز في صلة الإخوان المسلمين بأميركا، إن تأملنا في الأسماء المصرية التي شاركت بأبحاث فيه، سنجد أن هذا القول هو قول غير صحيح.
ولأبدأ من الاسم الذي تحدثت عنه في المقال السابق، وهو اسم محمد البهي.
محمد البهي لا صلة له بالإخوان المسلمين في تكوينه الديني والفكري. وكان أعلى منصبين تولاهما في عهد جمال عبد الناصر تعيينه أول مدير لجامعة الأزهر عام 1961، وتعيينه وزيراً للأوقاف وشؤون الأزهر عام 1962.
محمود حب الله في ذلك العام كان مدير المركز الإسلامي في واشنطن، وكان أول مدير له مع إنشائه عام 1952، وكان معنياً بالدراسات الإسلامية والدراسات الفلسفية، وعلى وجه أخص الفلسفة البراغماتية، فلقد ترجم إلى العربية كتابي ويليام جيمس أبرز فلاسفتها: «العقل والدين» و«إرادة الاعتقاد».
محمد خلف الله أحمد الذي إضافة إلى مشاركته ببحث في ذلك المؤتمر، ترجم أبحاثه إلى العربية تحت عنوان «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة»، هو أديب وناقد، وأشهر كتبه هو كتابه الجامعي الأكاديمي القديم: «من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده».
أحمد حسين وحرمه. وهنا نأتي إلى مربط الفرس.
أحمد حسين كان عنوان بحثه «الإصلاح الاجتماعي في مصر مع إشارة خاصة إلى المناطق الريفية»، وكان عنوان بحث حرمه «التطور الاجتماعي للمرأة في مصر».
استرعت انتباهي ملحوظة شكلية في ترجمة أبحاث المؤتمر إلى اللغة العربية، لذلك فإنني استخدمتُ تعبير «حرمه»، لكي أبرز هذه الملحوظة الشكلية.
ففي قائمة التعريف بأسماء المشاركين ببحوث في المؤتمر، استخدم محمد خلف الله أحمد، وهو يعّرف بزوجة أحمد حسين، تعبير «السيدة حرم الدكتور أحمد حسين».
وفي فهرس محتويات الكتاب وضع اسمها على هذا النحو: «السيدة عقيلة الدكتور أحمد حسين»، ووضعه أيضاً على هذا النحو تحت عنوان بحثها في متن الكتاب.
فهو في هذين الاستخدامين لم يذكر اسمها، وذلك من باب التوقير العصري لها؛ فالسيدة عزيزة سيد شكري دحروج، وهي رائدة في العمل الاجتماعي والتنموي، كانت بطريقة أوروبية تحمل اسم عائلة زوجها، وليس اسم عائلتها هي. وكان تعبير «حرم أحمد حسين» ملتصقاً بذكر اسمها.
وثمة تصحيف طباعي في الكتاب كُتب تحت عنوان «بحث أحمد حسين». فلقد كتب أن البحث - وأنا أنقل حرفياً - «للدكتور أحمد حسين سفير مصر السابق لدى أميركا وزير المعارف، بباكستان»! والصحيح في هذه المعلومة هو شطرها الأول.
وقد غلط محمد خلف الله أحمد في تعريفه بمحمود حب الله؛ فلقد ذكر أن من مؤلفاته كتاب «الإسلام والسلام العالمي» وأشار إلى أنه صدر عام 1952. وهذا الكتاب هو لسيد قطب، وهو صادر عام 1951. ولعله كان يقصد كتاب «الإسلام والعالم» الذي صدر في حدود عام 1958.
نعود إلى مربطي الفرس، أحمد حسين وحرمه السيدة عزيزة حسين.
أحمد حسين إصلاحي اجتماعي ليبرالي هو وزوجته على مستوى النظر، وعلى مستوى العمل. كان وزيراً للشؤون الاجتماعية في حكومة الوفد ابتداءً من 12 فبراير (شباط) عام 1951، واستقال من الوزارة في أغسطس (آب) 1951، لتدخّل مصطفى النحاس في أعمال وزارته، كما صرحت بهذا زوجته السيدة عزيزة. كان هو ومجموعة من شخصيات بارزة في المجتمع المصري توجههم السياسي والفكري هو توجه أميركي. وكانوا يستشعرون خطر الشيوعية، وما قد تتسبب فيه من نشوب ثورة راديكالية في مصر. لذا فقد أسسوا جمعية اسمها «جمعية الفلّاح»، لتنفيذ أفكار في الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، ترأسها أحمد حسين. وكان من أعضائها حماه الطبيب سيد شكري وزير الصحة العمومية، من 22 يوليو (تموز) إلى 24 يوليو عام 1952.
تولى عدد من زملاء أحمد حسين في جمعية «الفلّاح»، التي يجمع أعضاءها التوجهُ السياسي والفكر الأميركي، وزارة بعد ثورة يوليو. تقول زوجته إن عبد الناصر عرض عليه وزارة، لكنه فضل أن يكون سفيراً في واشنطن، بسبب زيارات ومحاضرات سابقة في أميركا، له ولها.
وفي تقديري أن عبد الناصر استحسن تفضيله هذا، لمعرفته بعمق علاقته بالحكومة الأميركية.
وهذه العلاقة كانت معروفة في المجتمع السياسي المصري، لذا كان اليساريون يسمون جمعية «الفلّاح» بسبب ترؤسه لها: جمعية «الفلّاح الأميركي».
مشاركة أحمد حسين وزوجته السيدة عزيزة بالبحثين المشار إلى موضوعهما آنفاً، كانت بعد مباشرته مهام منصبه بأشهر قليلة.
ويمكن النظر إلى مشاركته بأنها مشاركة حكومية رسمية؛ فهو يمثل حكومة النظام السياسي الجمهوري الجديد في أميركا.
ويمكن النظر إلى مشاركة محمود حب الله مدير المركز الإسلامي بواشنطن- إلى حد ما - من هذه الزاوية.
أبحاث مؤتمر «الثقافة الإسلامية وعلاقتها بالعالم المعاصر»، الذي ترجمت أبحاثه إلى العربية، في كتاب عنوانه «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة»، مؤسسة فرانكلين في القاهرة، هي التي طبعته ونشرته عام 1956، ونشرته مرة أخرى عام 1962.
والندوة التي عقدتها جامعة برنستون عام 1947 تحت عنوان «الشرق الأدنى: مجتمعه وثقافته»، الذي يُعتبر ذلك المؤتمر امتداداً لها، نشرت ترجمته إلى اللغة العربية عام 1958. في «سلسلة الألف كتاب»، وهذه دار نشر رسمية.
ومؤسسة فرانكلين التي طبعت ونشرت أعمال ذلك المؤتمر، والتي هي إحدى أذرع الثقافة الأميركية، تأسست في مصر عام 1953، أي أنها تأسست فيها بعد قيام ثورة 23 يوليو بفترة وجيزة.
إن نظرية عبد العظيم حماد التآمرية بأن مؤتمر برنستون - بحسب تسميته له - ما هو إلا غطاء أكاديمي لتوثيق عرى الصلة بين أميركا والإخوان المسلمين، من أجل محاربة الشيوعية واليسار في مصر وفي العالم العربي، ستكون أوجَه - هذا إن وقعنا في فخ النظرية التآمرية - لو أزحنا الإخوان المسلمين وأحللنا ضباط الثورة مكانهم، نظراً للشواهد المعتبرة التي ذكرتها.
إن «الإخوان المسلمين» والإسلاميين عبر أجيال مختلفة لا يعرفون عن مؤتمر «الثقافة الإسلامية وعلاقتها بالعالم المعاصر» أو «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة» سوى صورة تشنيعية كتبها لهم محمد محمد حسين منذ أمد طويل. وللحديث بقية.