حازم خيرت
السفير المصري الأسبق في سوريا
TT

شهادة أممية للتجربة المصرية

أدخلت موجة «الربيع العربي» التي عشناها منذ عام 2011، المنطقة في سلسلة من الكوارث والمحن غير المسبوقة بتداعياتها السلبية على استقرار دولها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وهنا لا بد من أن نكون صادقين مع أنفسنا بعيداً عن الشعارات والمصطلحات الشعبوية والفضفاضة، فلا تزال هناك دول تعيش في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار وغياب المؤسسات منذ بداية هذه الأحداث.
كادت مصر تنجرف وسط هذه الموجة التي هددت أمنها واستقرارها بشكل مباشر، إذ شهدت موجة إرهابية عتية هي الأكبر والأعنف في تاريخها اختلفت بشكل جذري عن إرهاب عقد التسعينات من القرن الماضي، وتزامنت معها أحداث إقليمية ودولية - بل ومؤامرات - استهدفت الدولة المصرية لإضعافها وزعزعة استقرارها. كما برزت قضايا إقليمية ودولية على السطح تهدد المصالح المصرية بشكل مباشر أو غير مباشر، وغيرها من الأمور التي كانت بطبيعة الحال تؤثر سلباً على حجم الاستثمارات وحركة السياحة والاقتصاد بصفة عامة. انعكس هذا كله على الاقتصاد المصري سلباً، ليخسر ما يقرب من 380 مليار جنيه. إلا أن الدولة استطاعت بإصرار قيادتها وتضحيات أبنائها وحرفية مؤسساتها، احتواء تلك الموجة والسيطرة عليها خلال الأعوام الأخيرة، فحققت الإعجاز وليس فقط الإنجاز.
معجزة تجاوز «الربيع» وتداعياته تلك، يرويها على ألسنة خبراء ومستقلين تقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أخيراً بعنوان «التنمية حق للجميع: مصر المسيرة والمسار». وهذا التقرير الذي لم يصدر منذ عشر سنوات، مستقل ومحايد تصدره جهة أممية، وليس من الحكومة المصرية التي اقتصر دورها على توفير المعلومات والبيانات وتسهيل مهمة العاملين ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، حتى يطّلع المجتمع الدولي على حقائق موثقة لا جدال فيها وتحد من موجة الشائعات.
منذ عام 2014، بدأت مصر في وضع خطة اقتصادية طموحة، ووضعت «رؤية مصر 2030» التي تمثل الطريق نحو تنمية شاملة تحقق العدالة الاقتصادية والاجتماعية مع توفير أقصى قدر من المميزات التنافسية لتحقيق حياة كريمة ولائقة للمواطنين. وفي 2016، فعلت الحكومة المصرية خطة إصلاحات طموحة بدعم من صندوق النقد الدولي لثلاث سنوات. وركزت الخطة على استعادة التوازنات الاقتصادية من خلال تنفيذ إصلاحات مهمة في مجالات السياسات المالية والنقدية وأسعار الصرف، وإصلاح دعم الطاقة، وتحسين التمويل الحكومي من خلال فرض ضريبة القيمة المضافة، وتطبيق نظام ضمان اجتماعي يحفظ للطبقات الاجتماعية الأكثر فقراً الحد الأدنى من شروط العيش الكريم. كما تضمنت الخطة إصلاحات هيكلية في قطاع الطاقة، والخصخصة، وتحسين البنية التحتية، ومناخ الاستثمار. وحققت بنهاية أجلها تحسناً كبيراً مكن من معالجة بعض القضايا الهيكلية.
ورغم الأعباء الاقتصادية والاجتماعية الثقيلة التي أضافتها جائحة «كورونا» منذ بدايات 2020، في توقيت كانت فيه مصر أحوج ما تكون للاستقرار المالي حتى تستطيع السير قدماً في مشروعاتها وإصلاحاتها الاقتصادية، إلا أن الدولة تعاملت مع أزمة الجائحة بامتياز، وخصصت نحو 100 مليار جنيه لتخفيف الآثار الاجتماعية الناجمة عنها، واتخذت التدابير الاستباقية لتلبية الاحتياجات الصحية والاجتماعية ودعم القطاعات الأكثر تضرراً.
والآن بعد أن أصبح تقرير التنمية البشرية الأممي عن مصر متاحاً للجميع، بات واضحاً جهد الدولة المصرية على مستوى الاستثمار في مجال التعليم والصحة والتحول الرقمي والتطور المؤسسي والإصلاح الإداري لتحقيق نظم الحوكمة، فضلاً عن التحسن في برامج الإصلاحات الاقتصادية منذ 2016، التي انعكست إيجاباً على معدلات النمو (3.6 في المائة في عام 2020/19، و3.3 في المائة في عام الأزمة 2021/20)، وذلك في ظل انكماش وتراجع مستوى النمو الاقتصادي على الصعيد العالمي بسبب الجائحة.
يرصد التقرير توفير السلع والخدمات كافة مع التحكم بقدر كبير في معدلات التضخم في ظل ظروف صعبة، ودعم الاحتياجات العاجلة والملحة للمواطنين على برامج مثل الكهرباء والنقل والطرق والكباري وتحسين منظومة الأمن وتدعيم احتياجات الوحدات المحلية المختلفة، فضلاً عن السيطرة النقدية والمالية والتحول التدريجي المحسوب والمدروس لملف الدعم مع عدم المساس بالسلع التموينية الأساسية.
وهنا لا بد أيضاً من أن نسلط الضوء على برامج الحماية والمزايا الاجتماعية التي تبنتها الدولة مثل برنامج «تكافل وكرامة» الذي استفاد منه ملايين المواطنين، ومبادرة «حياة كريمة»، في إنجاز غير مسبوق لتحسين مستوى الحياة للفئات المجتمعية الأكثر احتياجاً على مستوى الدولة، بالتنسيق المتكامل مع مؤسسات المجتمع المدني ورجال الأعمال والقطاع الخاص في إطار استراتيجية شاملة ومستدامة وتشاركية.
خرج تقرير التنمية البشرية الأممي عن مصر صادقاً، لا يواري حقيقة أو يخفي سوءات، فلم يقل إن الأمور في مصر وردية، إذ ما زالت هناك العديد من التحديات - رغم التحسن النسبي - خصوصاً معدلات الفقر والبطالة والتضخم في ظل الزيادة السكانية المتسارعة، ومشكلة العشوائيات ووصول الخدمات إلى مستحقيها وملف الدعم وغيره، وهو ما يعني أن القيادة المصرية حريصة على الإفصاح عن ذلك وليس لديها ما تخفيه، فالمشكلات لن تحل في ليلة وضحاها، وثمار هذا الجهد تحتاج صبراً. لكن الخلاصة أن أي نظرة منصفة على التقرير ستوضح كيف كانت مصر في 2014، وكيف أصبحت في 2021. وتكشف عن وتيرة إصلاح تؤكد المضي نحو تحقيق «رؤية مصر 2030»، رغم كل التحديات، لتدخل البلاد عهداً جديداً يليق بقدرها وبتضحيات شعبها في وجه تبعات «الربيع».

* مساعد وزير الخارجية المصري السابق