حنا صالح
كاتب لبناني
TT

حفّارو قبور الجمهورية!

لم يحدث في تاريخ البلدان ما حدث في لبنان. سطو رسمي بالقانون والتواطؤ والبلطجة على المال العام والخاص على حدٍّ سواء. حدثٌ بهذا المستوى لو وقع في أي بلد طبيعي، مع ما تسبب به من انهيارات غير مسبوقة، لكانت السلطة قد استقالت وأُحيلت إلى المحاسبة، مُفسحِة المجال أمام معارضين حقيقيين لنهجها للحلول مكانها. ولو كانت تلكأت عن الخروج من المشهد السياسي، لكان ضغط الشارع قد أجبرها على الاستقالة، وفرض إقصاءها بعد تدفيعها ثمن ما ارتكبته!
مأساويٌّ ما حصل في لبنان. خلال أشهر قليلة انقلب البلد رأساً على عقب. نحو مليون و700 ألف مودع كانوا يتملكون نحو 120 مليار دولار هي أموال حقيقية، هي تعب السنين وجنى الأعمار وضب «القرش الأبيض لليوم الأسود»، وجدوا أموالهم تبخرت وكل حساباتهم الدفترية لا يستطيعون الوصول إليها! وتسارعت وتيرة الانهيارات العامة التي طالت المؤسسات، واتسعت البطالة، وطارت التعويضات، وانهار سعر صرف الليرة بعد انكشاف أخطر الأكاذيب: «الليرة بخير»، وهم كانوا يعلمون أنها لم تكن كذلك!
ولأنه لبنان، البلد المحكوم من طغمة سياسية مرتبطة بالخارج، كانت ربيبة جيش النظام السوري الذي احتل لبنان لعقود حتى عام 2005، لم تجد حرجاً بنقل البندقية من كتفٍ إلى كتف، فتنصاع لهيمنة نظام ملالي طهران من خلال وكيلهم المحلي «حزب الله». لم يستفزها يوماً ما أعلنه قاسم سليماني بعد انتخابات عام 2018 من أن أكثرية برلمان ذلك العام هي من حصة «حزب الله»، بعدما كان قد أعلن أن بيروت واحدة من عواصم عربية أربع تسيطر عليها طهران!
تسمروا على كراسيهم، غير آبهين لجريمة تفجير المرفأ ولا الإبادة الجماعية التي نجمت عنها ولا لدمار قلب العاصمة. راحوا يتصارعون على محاصصة المناصب في الحكومة الجديدة، وكل فريق انصب اهتمامه على الاستئثار بحصة، من مساعدات إغاثية تحدث عنها الخارج، وهدفها المباشر درء خطر مجاعة زاحفة. حددوا أولوياتهم وصوبوا على كيفية انتزاعها، هم الذين استولوا على مقدرات البلد وتعب الناس، وراكموا الأرباح، ونقلوا المليارات إلى الخارج، وتركوا البلد مفلساً ومنهوباً. تصرفوا بثقة متناهية بأن لا خوف من محاسبة لأحد، ما دام نظام المحاصصة الطائفي هو المرجع، وقد وفّر لهذه المافيا كل الحصانات المقوننة، وفوقها حماية بندقية الدويلة التي تغولت على الدولة!
في لحظة تقاطع مصالح بين طهران وباريس، التي كان لرئيسها اليد الطولى في تعويم المنظومة السياسية بعد جريمة تفجير المرفأ، تم الإفراج عن محاصصة حكومية امتدحها عون بأنها الأفضل، ليسارع على الفور إلى رمي فشل حكمه، على المنظومة السياسية الفاسدة، فاتهمها بأنها وراء إفشال عهده وإفساد الحياة السياسية، بعدما أمعنت فيها تخريباً، ولم يستطع ردعها! وليقفز بشكلٍ بهلواني، فوق واقع عودته إلى مشاركة المنظومة عينها «سرير» الحكم، ويشاطرها بشراكة كاملة «لحاف» تغطية المشروع الخارجي. وبتشاطر شعبوي مستهلك ومحروق، يطلق المواقف، ولا همَّ له ما دام تمكن الصهر من تجاوز العقوبات وإبرام الصفقة الحكومية الموعودة مع ميقاتي، الذي حدّد ضالّته بالعودة إلى السراي، في توقيت سياسي لافت، يراهن عليه لتعزيز حظوظ تمديد إقامته في كرسي الرئاسة الثالثة، بعد انتخابات مايو (أيار) المقبل المفترض أنها ستتم في موعدها!
التقى المتحاصصون في حكومة «نظام 4 أغسطس (آب)» على تجاهل الانتهاكات المتكررة للسيادة، وتغاضوا عن إمعان «حزب الله» في ممارسات تؤكد أنه دولة داخل الدولة، لها أجهزتها ومؤسساتها الموازية، وطبعاً الجيش البديل. ولم يتوقفوا أمام انتقال «الحزب» إلى توظيف أزمة المحروقات، وهو طرف رئيسي في تعطيش السوق، لدوره في كل عمليات التهريب، لدعم نظام بشار الأسد واستكمال مخطط نقل الثروة من الداخل إلى الخارج. وتلاحقت الأخبار عن التفنن في استعراض حجم نفوذ نظام الولي الفقيه!
بالنهاية إنها حكومة «الثورة المضادة» التي تلائم «الحزب» الذي يمتلك التحكم بالقرار الحكومي، ويعرف أنهم سيتجنبون أي تأثير على البنى التي أنشأها، وقدرته على التصرف متى يشاء من خارج المؤسسات العامة! لكل ذلك، بينما كان ميقاتي يخاطب الخارج معبراً عن «الحزن» لانتهاك «حزب الله» للسيادة، كان وزير الأشغال حمية، يعلن أن اكتساح المازوت الإيراني «قرار سيادي»... وفي جلسة الثقة وصف محمد رعد الاستباحة والعراضة المسلحة بأنهما «قرار وطني بامتياز وقرار سيادي»!
في لبنان الذي وُصِف يوماً بأنه مصرف المنطقة وكان ملاذاً للرساميل الهاربة في الخمسينات والستينات، وُجِد كارتل مصرفي – مالي - سياسي يقامر بالودائع، ويهرب الأرباح إلى الخارج، ويسجل الخسائر على المودعين، ويحتجز أموالهم ويذل الناس على أبواب المصارف. كارتل مطمئن إلى غياب المحاسبة وانعدام الملاحقة، فـ«شرّع» قوانينه المالية بعدما تم احتجاز الدعاوى ومنع البت بها، وتوفرت الحماية والحصانة لمافيا دمرت صناعة مصرفية استغرق قيامها قرناً كاملاً ويزيد!
تحول هذا الكارتل إلى شريكٍ أمين لرياض سلامة المتربع على كرسي حاكمية المصرف المركزي منذ عام 1993، فتشاركوا السياسات «البونزية»، ومنذ تيقنوا أن ممارساتهم ستودي بسفينة المال العام والخاص إلى الغرق، عمدوا إلى بدء نقل مليارات الدولارات إلى الخارج. وطبقاً لملفات التحقيق في فرنسا وسويسرا بالجرائم المالية المنسوبة إلى سلامة، تبدو هائلة حصة الأخير من المنهبة، فالتهم الموجهة إليه بغسل الأموال والإثراء غير المشروع، أشارت إلى نقل مئات الملايين إلى الجزر الآمنة، ليبيّضها لاحقاً عبر شراء العقارات في مدن أوروبا... والطريف أنه ما زال في موقعه ونال حصة وزارية في حكومة ميقاتي!
اللبنانيون اليوم أمام كمٍّ من حفّاري قبور الجمهورية ممن قدموا أولوياتهم وتبعيتهم على ما عداهما. والأسئلة عميقة عن المجتمع المعارض الذي أظهر حيوية استثنائية في ثورة أكتوبر (تشرين الأول)، وطيلة أشهر، فعرّى منظومة الفساد وكشف إجرامها. المراوحة الآن مقلقة والانتظار لا يفيد مثله مثل التسرع، وما من أولوية تفوق مهمة إعادة بلورة أوراق القوة الموجودة لدى كثرة لبنانية من المتضررين وأصحاب المصلحة بالتغيير. هؤلاء يعرفون أن لبنان الآتي مختلف عمّا كان عليه، ويدركون أن كل ما كان من أشكالٍ ومجموعات وجبهات وعناوين بات خلف الناس، وهو أصلاً لم يسهم قيد أُنملة في توفير البديل. ويدركون أن البقاء في تروما «4 أغسطس (آب)» لإرضاء الذات، تغطية لأنانيات وشخصنة صيادي الفرص وحكايات المجموعاتية، لا تشطب دروس الواقع ودلالاته. وفرملة إجرام حفّاري القبور، بهدف تغيير كامل المشهد، تفترض تسريع بلورة أدوات كفاحية يدافع بها الناس عن أنفسهم وكراماتهم وحقوقهم. وهل من بديل عن عمل سياسي منظم يستعيد الناس إلى الساحات ويبلور ميزان القوى الآخر، المفقود اليوم، بوصفه الأداة الوحيدة لكسر العربدة المميتة!