د. ياسر عبد العزيز
TT

... ولا عزاء للإعلام المُقاتل

في شهر أغسطس (آب) الماضي، تم الإعلان عن قطع العلاقات الدبلوماسية بين دولتين عربيتين شقيقتين وجارتين هما الجزائر والمغرب، وهو أمر محزن ومثير للأسى بطبيعة الحال، لكنه للأسف الشديد تكرر كثيراً وعلى مدى عقود طويلة منذ نشأة الدولة الوطنية العربية.
منذ خمسينات القرن الفائت لم تتوقف الأخبار التي تفيد باندلاع خلافات عميقة بين دول عربية، وفي بعض الأحيان كانت تلك الخلافات تتطور إلى صدامات واشتباكات أو حروب، فيسقط فيها ضحايا، وتتغير خرائط، وقد تنهار أنظمة.
وظل الإعلام لاعباً رئيساً في تلك الحروب كلها؛ إذ يجري عبره عادة شيطنة الخصوم، وتلطيخ سمعتهم، وتثوير معارضيهم، فضلاً عن نهوضه بعمليات الإقناع والحشد والتعبئة للجمهور الداخلي في الدول المنخرطة في تلك النزاعات.
ورغم وجود أكثر من عشرة أسباب تكمن وراء قرار قطع العلاقات الجزائرية - المغربية وما سبقه من خلافات عميقة؛ فإن الإعلام يقف بوضوح كأحد أهم تلك المسببات، بل إن بعض النُقاد يرى فيه القاطرة التي قادت المشاعر والسياسات المتبادلة بين الدولتين الجارتين إلى نقطة القطيعة.
لا تعدم العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين أسباباً موضوعية وتاريخية للخلاف، بل إنهما خاضتا حرباً قبل نحو ستة عقود، وأغلقتا الحدود المشتركة قبل نحو ثلاثة عقود، لكنهما وجدتا، في عديد الأوقات، سبلاً لتخطي الخلافات وإقامة حوار موضوعي، وإدراك مصالح مشتركة. لكن بعض الممارسات الإعلامية التي انطلقت من كلا البلدين، منذ مطلع العام الحالي، كانت الشرارة التي أججت تلك الخلافات، وحشدت الغضب وعبأت الصدور، بعدما تورطت في إهانات حادة طالت الرموز الوطنية ولم تستثن الزعامات.
لا تعرف العلاقات السياسية الخارجية سكوناً أبداً، وقد أخبرنا التاريخ أنها دائمة التغير بحسب تغير المحددات والقيود والضغوط وتوازنات المصالح؛ إذ تدير الدول طاقاتها العدائية، في الغالب، من أجل تحقيق المصالح الوطنية وليس من أجل إشباع شهوة الانتقام.
وعندما تقرر دولة ما أن من مصلحتها الوطنية أن تخوض حرباً أو تنخرط في نزاع مع دولة أخرى؛ فإنها لا تقرر ذلك كسياسة أبدية لا يستقيم الوضع من بعدها أبداً، بل يمكنها دوماً أن تُخضع تلك السياسة للتطوير والتغيير، كلما اقتضت الظروف ذلك؛ «فلا صداقات دائمة، ولا عداوات دائمة، وإنما مصالح دائمة».
واستناداً إلى ذلك، فربما نجد أن عدو اليوم صار صديق الغد، والعكس صحيح، ويُعد هذا من أعمال السياسة واستحقاقاتها الأصيلة، أما ما يمكث لاحقاً في الوعي والضمير المؤسسي والشعبي، فسيكون شعور الإهانة الذي يرد عادة على أقنية الإعلام المضاد، فيُكرس العداوة، ويُفقد الاعتبار.
لكن مدرسة إعلامية تقليدية ما زالت تحكم سياسات التسويق السياسي في عديد من البلدان، ويرى منظروها أن الإعلام بوصفه جزءاً من القوى الشاملة للدولة، يوجب على تلك الأخيرة أن تستخدمه في معاركها سلاحاً يوجه إلى صدور الأعداء، بصرف النظر عن طبيعته الخاصة واستحقاقات أدائه لمهامه.
ووفق هذا المنظور، تجيش عديد الدول أسلحتها الإعلامية، وتقاتل بالأخبار والصور. وهو أمر يحدث في الشرق وفي الغرب أيضاً، وليست حروب الدعاية الأميركية في الحربين العالميتين والحرب الباردة، وما تلاها من أحداث غزو العراق وأفغانستان، بخافية على أحد. لكن نُقاد تلك المدرسة يعتقدون أن هذا الإسراف في استخدام الإعلام كسلاح حرب وقطيعة ومفاصلة مع «الأعداء» لا يخدم السياسة ولا يخدم الإعلام في آن، ولعل تراجع قدرات الدعاية الأميركية وتذبذب سمعتها عالمياً يقدم دليلاً على ذلك الاستخلاص.
في عبارة شهيرة يقول كارل ماركس إن «التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة، وفي المرة الثانية كمهزلة»، ورغم ذلك فقد أعاد بعضنا في العالم العربي تاريخ الاستخدام المسيء للإعلام في الحروب والنزاعات مرات ومرات، وهو أمر لم تسعفنا تلك العبارة في إدراك وصفه.
وكما يحدث في المغرب العربي، جرى أيضاً في المشرق شيء من ذلك على مدى العقود الفائتة وحتى أمس القريب؛ إذ تم استخدام الإعلام كأداة حرب ونزاع، قبل أن يُطلب إليه أن يتوقف عن «العدوان» ويعود إلى لعب أدوار المصالحة والوفاق.
والشاهد أن الإسراف في شرح تفاصيل الخطل لن يكون مُجدياً الآن؛ فحتى أفراد الجمهور العاديين باتوا قادرين على فرز لغة خطاب الوسائل الإعلامية «المقاتلة» وسبر تحولاتها الدراماتيكية. لكن ما يمكن أن نفعله، ويكون عملياً ومثمراً، ألا نقاتل مرة أخرى بالأخبار، وأن ندع مؤسساتنا الإعلامية تقوم بمهمتها الجوهرية، فنصون استثمارنا فيها، ونيسر لها خدمة الحقيقة والناس.