سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الفن يطعنه المال

«لن أتنازل عن أي شيء في العالم، مقابل سنتيمتر واحد من حريتي» تلك هي العبارة المفتاح التي انطلق منها الفنان البلغاري الأصل كريستو فلاديميروف جافاشيف، الهارب من استبداد الحكم السوفياتي إلى فيينا وباريس، ليلتقي برفيقة دربه جان كلود؛ المرأة التي للصدفة ولد معها في يوم واحد، وسيتلازمان ويوقعان أعمالهما الفنية معاً، إلى أن فارقت الحياة عام 2009، وتبعها كريستو عام 2020.
أدرك باكراً، الفنان الذي انتقل بعد ذلك، للعيش في أميركا، أن الشرط الأول لحريته، هو الانعتاق من سلطة رأس المال. عمل جاهداً لكسب قرشه بعرق جبينه. كان يرسم لمدة 16 ساعة متواصلة، كي يؤمّن احتياجات تجهيزاته التي بدأت متواضعة الحجم بتغليف العلب والزجاجات وكل ما يقع تحت يده، لينتقل إلى الجسور والمباني الضخمة، التي تحتاج ملايين الدولارات.
الحلة الجديدة لقوس النصر في باريس هذه الأيام، متشحاً بالأقمشة الزرقاء المفضضة، محزّماً بالحبال الحمراء، هي هديّة فنية كلفت الفنان الراحل من جيبه الخاص 14 مليون يورو، تحقيقاً لحلم راوده عام 1961 لم يتحقق إلا بعد وفاته. وهو واحد من أعمال كثيرة، نفذها الثنائي الشهير في مدن عدة منها برلين ونيويورك وباريس سابقاً؛ حيث غلفا قبل 30 سنة «الجسر الجديد» بقماش بلون رمال الصحراء. حرص كريستو على تمويل تجهيزاته العملاقة من مبيع لوحات تصاميمها الأولى والرسومات التحضيرية، الهدايا التذكارية، النماذج، والطباعة الحجرية، في مزادات تحصد الملايين. مات كريستو وهو يحلم بقوس النصر على جادة الشانزليزيه يلعب بستائره الهواء، كأنما الحياة تدب فيه مع كل نسمة، فخوراً أنه ينجز أعمالاً تعرض لأيام محدودة وتختفي لا يبقى منها غير الصور والذكريات، وما تتركه في القلب من أثر. «أعمالي تخييلية، بمقدوركم أن تعيشوا من دونها، ليست ضرورية لأحد، لكنني بحاجة إليها وكذلك من يعملون معي. لا أحد يستطيع شراءها، ولا أحد يستطيع امتلاكها». الفرجة في قوس النصر بالمجان، مع شروحات، وقطعة من قماش العمل، ذكرى لمن يريد. وبعد أيام يفكك التجهيز وتذهب 25 ألف متر من القماش، و3 آلاف متر من الحبال، للتدوير، حفاظاً على المال من الهدر، وعلى البيئة من التلوث.
حوّل كريستو نفسه إلى مؤسسة متكاملة، تبتكر، وتنتج، وتبني التجهيزات، وتعيد التدوير، وتمول أيضاً. ثمة من يتهم كريستو بإخفاء لعبة مالية غير نظيفة، بتسجيل شركاته في أماكن لا تخضع لضرائب. هناك من يطعن بجمالية أعماله أصلاً وقيمتها الفنية. وقد يكون كريستو وجان كلود نظيفين هفهافين، وقد لا يكونان، لكنهما وضعا معاً نواة لفكرة تمويل ذاتي تستحق الاهتمام والتطوير.
التجهيزات التي تنتمي إلى الفن المفاهيمي، الزائلة، التي لا تقبل أن تحبس في المتاحف وبين الجدران، أعادت الجمال للشارع. فبعد أن حجبت الأعمال الفنية في الصالات، ونقلت الآثار من مكانها في الصحارى وبين الأشجار، إلى المتاحف، وفرضت عليها رسوم الدخول، بات الحاجز بين الناس والفن كبيراً يحتاج إلى ردم الهوة. وكلما أصبحت إقامة معرض عبئاً على الفنان، تفاقمت حاجته إلى المال.
كريستو كانت له إمكانات على قدر أحلامه. النحاتون الثلاثة «عساف» في لبنان نموذج آخر، شرقي وبسيط. ففي المركز الفني الذي شيده هؤلاء النحاتون، من حجارة جبل لبنان المقيمين فيه، والحدائق التي رعوها والمنحوتات التي أنجزوها، سبيل ذاتي إلى حفظ الكرامات وصيانة النفس المبدعة من الانكسار والحاجة. حين تسأل أحدهم إن كانوا يتعاملون مع غاليريهات، يقولون لك إنهم لا يعرفون سوى من يريدون اقتناء عمل فني. هذا يذكّر بنقّاد دائماً ما يخبرون أن كل دخول إلى شبكات الاتجار بالفن، هو عبودية، واستسلام لمن سيتدخل ليس فقط في أسلوبك وموضوعك، ولكن أيضاً بجدول تحركاتك.
تعقيدات عالم الفن، تزن ثقيلاً. لم تعد الأعمال متوارية فقط، رؤيتها مدفوعة واقتناؤها حكر على بعض الذين لا يعرفون قيمتها، بل تحكّم فيها الترويج، فرفع من شأن أناس، وحرم موهوبين من حقهم في الظهور. فلا أحد يعرف اليوم، لماذا يبيع فنانون مثل داميان هيرست، وجيف كونس، وتكاشي موراكامي، أعمالهم بأغلى الأثمان؟ ولماذا يحتكر هؤلاء الذي باتوا يمتلكون شركات للإنتاج والإدارة والتصنيع، وإعادة الإنتاج، الشهرة والثروات معاً؟ مع أن كلاً منهم لا يقدم بالضرورة الجمالية المبهرة، لمتفرجيه بقدر يتحفهم بمجسمات، لدمى أو حيوانات، وأحياناً بالونات، خضعت للتصنيع والتوليف.
النقاشات حارة في باريس حول تغليف قوس النصر، المعْلم التاريخي الأكثر شهرة. أراده نابليون بونابرت رمزاً يخلد انتصارات الجيوش الإمبراطورية، ثم ضم قبر الجندي المجهول إثر الحرب العالمية الأولى، فجاء هذا اللاجئ من بلغاريا ليفرض مشهداً آخر. احتاج تحقيق حلم كريستو 50 سنة من الانتظار، و5 سنوات من الموافقات والتحضيرات، وتوقيع رئيس الجمهورية، وتنسيق كثير من المؤسسات، وتقديم شروحات للنقابات والمتاجر المحيطة، والسفارات المجاورة، وربما إقناع الشعب الفرنسي أن رمز العظمة الوطنية، يمكن أن تكون له حلّة مختلفة ولو لأسبوعين، مع كل التطمينات بأن الفريق الفني لكريستو، يعمل وفق تقنيات ترعى بدقة المنحوتات الرائعة التي تزين هذا الصرح. يبقى أن كريستو مع تمويله العمل لا يزال يلقى النقد ويتهم بأقبح العبارات، وبأنه «مخادع» و«كاذب» و«رأسمالي متخفٍ» وأن «هذا التغليف لقوس النصر يرمز تماماً إلى طبيعة اللحظة النيوليبرالية، المعادية للشعب وقيم الجمهورية، التي تخضع لها فرنسا وشعبها».
الأعمال الفنية، حتى لو كانت زرقاء بلون البحر والسماء، هي موضع جدل، وإثارة أسئلة، وتلك هي أهم أدوارها، وسبب جوهري لوجودها.