أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

لبنان وحديث الوصاية السورية!

4 أسباب تجعل الحديث عن فرصة لعودة زمن الوصاية السورية على لبنان مجرد لغو، وهو الحديث الذي انتعش مؤخراً، بفعل تظهير بعض الإشارات التي تذّكر الناس بذاك الزمن البغيض، آخرها التعليقات التي تناولت تغييب العلم اللبناني خلال الزيارة الرسمية لوزيرة خارجية لبنان، لنيل موافقة دمشق على خطة مدعومة أميركياً، تمكن بلادها من استجرار الكهرباء والغاز من الأردن ومصر عبر الأراضي السورية، ثم مظاهر التودد والاحتواء اللافتة التي خصّها النظام لوفد من طائفة الموحدين الدروز في لبنان، ضمّ النائب طلال أرسلان، والوزير السابق وئام وهاب، وعدداً من المشايخ، وقبلهم تواتر حضور رؤساء أحزاب وكثير من الشخصيات السياسية اللبنانية إلى سفارة دمشق في بيروت للتهنئة بانتخاب الرئيس السوري، ربطاً باندفاع بعض أركان السلطة السورية وزعماء لبنانيين حافظوا على روابط متعددة مع أجهزتها، للمجاهرة بما يعتمل في نفوسهم من أوهام ورغبات مدفونة عن ضرورة عودة الوصاية السورية على بلد يعتقدون أنه لا يزال دون سن الرشد وعاجزاً عن إدارة شؤونه، مستقوين بحالة التخبط المزمنة التي يعيشها سياسياً، وتفاقم أزمته الاقتصادية والاجتماعية بصورة غير مسبوقة، كما شدة معاناة أهله الخدمية والمعيشية.
السبب الأول، حالة الانهاك العسكري والأمني والارتهان الاقتصادي والسياسي التي باتت تحكم الخناق على النظام السوري نفسه بعد 10 سنوات من حرب دموية أكلت الأخضر واليابس، وأكرهته على استجرار دعم خارجي للحفاظ على استمرار حكمه، وأظهرت مدى الضعف والعجز اللذين أصابا قوى السيطرة والقمع، التي عادة ما يتوسلها لمدّ نفوذه وفرض هيمنته خارجياً.
صحيح أن السلطة السورية تمكنت خلال 3 عقود من فرض سطوتها على لبنان وصارت أشبه بقبلة للنخب اللبنانية، عندها الحل والربط، وعلى يدها تقرر السياسات وشروط معالجة أي معضلة، ما سمح بالقول، تندراً، إن لبنان هو المحافظة السورية الثالثة عشرة، لكن معالم تلك الصورة بدأت بالتبدل منذ اغتيال رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان، ثم تغيرت الأوزان والاصطفافات جراء استمرار الحرب السورية وتفاقمها، وبتنا نقف اليوم أمام صورة جديدة لسوريا وهي تئن تحت الخراب والدمار وأعداد ما فتئت تزداد من الضحايا والمعتقلين والمفقودين والمشردين.
العاجز عن ضمان سيطرة مستقرة على سوريا هو بداهة أعجز عن فرضها على لبنان، والقصد أن سوريا تعيش اليوم وضعاً صعباً وربما أشد صعوبة مما يعيشه لبنان، وتشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى أن نصف السوريين باتوا اليوم بين نازح في الداخل ولاجئ إلى الخارج، و80 في المائة منهم تحت خط الفقر، وتفوق البطالة حدود 60 في المائة، عدا وجود 5 جيوش أجنبية، إيرانية وروسية وأميركية وتركية وإسرائيلية، فوق أراضيها، وأنواع مختلفة من التنظيمات الإسلاموية الإرهابية، فهل يصح القول إن سوريا، في وضعها الحالي، يمكن أن تؤثر في لبنان، أو تتمكن من مساعدته وتخفيف أزمته، فكيف بفرض الوصاية عليه؟
ثانياً، انعدام أي حاجة، وتالياً أي غطاء عربي أو دولي لعودة الوصاية السورية على لبنان، فلم يعد ثمة خطر، شكّله في الماضي تنامي وزن المقاومة الفلسطينية في لبنان والحركة الوطنية اللبنانية، وشجع الدول الغربية على منح سلطة دمشق الموافقة على دخول قواتها العسكرية إلى لبنان عام 1976 للحد من ذلك الخطر وتحجيمه، كما ليس ثمة ما يوحي بتكرار تفهم واشنطن لوصاية النظام السوري على لبنان، كما كان الحال مع اتفاقي مورفي 1988 والطائف 1989، تعويضاً لتناغمه المثير مع السياسة الأميركية في المنطقة، بينما كان المعسكر الاشتراكي آيلاً للتفكك، وأيضاً لن يكون هناك ضوء أميركي أخضر كي يجتاح جيشه بيروت الشرقية عام 1990 ثمناً لموقفه من حرب الخليج الثانية وانضمامه، كطرف معلن إلى التحالف الدولي لإخراج صدام حسين من الكويت، فكيف الحال اليوم وقد فقدت السلطة السورية شرعيتها وباتت محاصرة ومعزولة، وتطالها عقوبات شديدة لإجبارها على وقف العنف والالتزام بالحل السياسي، ما أضعف قدراتها، ليس فقط على استعادة بعض حضورها الإقليمي، وإنما أيضاً سيطرتها على عموم البلاد وعلى إعادة إنتاج قاعدتها الاجتماعية، ويزيدها ضعفاً ما يثار عن تنامي التوترات والخلافات بين مراكز قواها، في ظل تجميد إعادة الإعمار، وما يشهده الوضع الاقتصادي والاجتماعي من تدهور.
ثالثاً، ما يعيق عودة الوصاية السورية على لبنان، أن الأخير بات تحت رحمة وصاية من نوع آخر، هي الوصاية الإيرانية المستندة لأداتها المسلحة «حزب الله»، حتى صار مألوفاً، عند حصول استعصاء قاسٍ في لبنان، أن يشار إلى قادة طهران بصفتهم أصحاب الكلمة الحاسمة، وآخر دليل أن الحكومة اللبنانية الجديدة ما كانت لتبصر النور لولا ما أشيع عن توافق جرى عبر اتصال هاتفي بين الرئيسين، الفرنسي ما كرون، والإيراني إبراهيم رئيسي؛ حيث أبدى الأخير استعداده للتعاون مع فرنسا لتنمية لبنان، مؤكداً ضرورة بذل الجهود، من جانب إيران وفرنسا و«حزب الله»، لتأليف حكومة لبنانية قوية!
ومع الاعتراف بقوة التحالف بين دمشق وطهران، فإن نفوذ حكام إيران في لبنان لم يعد يحتاج بعد الآن لدور النظام السوري هناك، ما دام «حزب الله» حاضراً بسلاحه، ولديه القدرة الذاتية على تهديد وابتزاز هيئات المجتمع ومؤسسات الدولة ومحاصرتها وإخضاعها، وما دام يسهل توسل النظام السوري نفسه لدعم إرادة إيران ومراميها، كما مواقف «حزب الله» وسياساته، بدءاً من تسهيل تمدد وانتشار «الحرس الثوري» وميليشياته في سوريا، وانتهاءً بتمرير شحنات النفط الإيراني من مرفأ طرطوس إلى لبنان.
رابعاً، على الرغم مما يكابده اللبنانيون راهناً، وشدة معاناتهم من تردي أوضاعهم علاوة على الفساد، فلا مصلحة لغالبيتهم بعودة الوصاية السورية، وقد خبروا جيداً ماهيتها، وعانوا طويلاً من تجلياتها القمعية والابتزازية، ولديهم من المظالم والذكريات المؤلمة معها ما يكفي لحضّهم على رفضها ومواجهتها.
أخيراً، إن صعوبة، إن لم نقل استحالة، عودة الوصاية السورية على لبنان، ينبغي ألا تنسينا الحذر من شهية النظام السوري المفتوحة دائماً لالتهام هذا البلد، وعلى الأقل، من نهج سلطوي سوري لا يزال يعيش على أوهام الماضي ويستسهل استضعاف لبنان والتفنن في التدخل بشؤونه!