ممدوح المهيني
إعلامي وكاتب سعودي. مدير قناتي «العربية» و«الحدث» كتب في العديد من الصحف السعودية المحلية منها جريدة الرياض، ومجلة «المجلة» الصادرة في لندن. كما عمل مراسلاً لـ«الشرق الأوسط» في واشنطن. وهو خريج جامعة جورج ميسون بالولايات المتحدة.
TT

رغم الأخبار السيئة... العالم اليوم أكثر سلاماً

أخبار تفجيرات «القاعدة» وجرائم «داعش» والميليشيات الإيرانية لطخت خريطة الشرق الأوسط بقطرات الدماء، ولكن إذا تجاوزنا ذلك كله، وبعيداً عن منطقتنا المنكوبة، ونظرنا إلى العالم بشكل أوسع، فإن معدلات العنف تراجعت بشكل غير مسبوق في التاريخ الإنساني. هذا يعني أننا بصفتنا بشراً أكثر سلمية من أجدادنا قبل عقود وحتى قرون سابقة سُفك فيها كثير من الدماء في بعض الأوقات لمجرد الإهانات الشخصية أو حتى التسلية.
لم تعد هناك حروب عالمية كما كان في السابق (آخر حرب عالمية كانت قبل 70 عاماً)، واحتمالات اندلاع حروب عالمية بين القوى العظمى شبه معدومة، ومن المعروف أن الدول الديمقراطية الكبرى لم تعد تدخل في حروب بعضها ضد بعض، وهذا هو السبب تحديداً الذي يدفع بالقوى الغربية للسعى من أجل تحويل أكثر دول العالم إلى دول ديمقراطية، وذلك من أجل تقليل احتمال نشوب حروب بربرية تندلع غالباً بسبب الأنظمة القمعية (مثال هتلر، وموسوليني، وصدام حسين... وغيرهم).
بعيداً عن كل الأخطاء التي ارتكبتها إدارة الرئيس بوش الابن في العراق، فإن الفكرة الأساسية كانت استزراع ديمقراطيات شرق أوسطية تنعم بالحرية والتداول السلمي للسلطة؛ الأمر الذي سيخفف من الأحقاد والاحتقان. بالطبع الآن نرى كم كانت الفكرة حالمة، ولكن الهدف كان تقليل العنف على المدى المنظور حتى ولو باستخدام القوة لوقت محدود. كلفت الحروب العالمية أكثر من 70 مليون إنسان، ومن الصعب أن نرى رقماً بهذا الحجم الآن. والسبب الأساسي خلف ذلك هو صعود الولايات المتحدة؛ قوة عالمية ليبرالية رأسمالية شكلت العالم على صورتها ومنعت نشوب حرب جديدة. بسبب غياب هذه القوة الكاسحة اندلعت حربان عالميتان في النصف الأول من القرن الـ20 ولم يكن بينهما إلا سنوات قليلة، واختفتا بعد ذلك.
الغريب أن صعود فكرة الدولة التي كانت في وقت ما سبباً للعنف، هو الذي أدى إلى التقليل من العنف في نهاية المطاف؛ لأنها بعد نضوجها وتمدنها هذبت سلوكها وأصبح تعريفها الرسمي هو احتكارها شرعية استخدام القوة وبحدود القانون، مما يعني أنه لا يوجد أحد غيرها قادر على استخدامها. في السابق؛ كانت القبائل والجماعات العرقية والدينية تنفذ قوانينها بيدها وترتكب حالات قتل واسعة، ولكن صعود الدولة بوصفها قوة وحيدة ألغى عنف القوى الاجتماعية والطبقية الأخرى وأصبحت الدولة سيدة الكلمة الأولى.
بعض الدول غير قادرة على مواجهة بعض الأعراف القبلية، مثل جرائم الشرف، ونرى في هذه الأماكن ازدياد نسبة العنف. هذا بالإضافة إلى أن هناك أنظمة مزيفة ساهمت في مزيد من العنف وخصصت أجهزة كاملة مدفوعة الثمن لارتكاب الجرائم. قبل مدة قتلت مجموعة من الغوغاء في باكستان شابة بتهمة الإساءة للقرآن الكريم، وهي تهمة اتضح فيما بعد أنها كيدية. نفذوا قوانينهم بأيديهم في ظل غياب تام للدولة. ليس من الصعب التخيل أن معدلات الجرائم والقتل ستزيد لو أصبحت مثل هذه الجماعات المدعين والقضاة والجلادين في الوقت ذاته.
بعيداً عن الحروب والجيوش والدول، فإن العنف بين البشر أيضاً تراجع إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ البشرية. قلة فقط منا ستموت نتيجة أعمال عنف كما كان في السابق، حيث كان احتمال أن تموت طعناً أو خنقاً على يد شخص آخر يصل إلى نسبة 15 في المائة، كما تقول الإحصاءات العلمية عن مسببات الموت في العصور القديمة، حيث كشفت عن كثير من الجماجم المهشمة نتيجة تعرضها للضرب العنيف.
أما في الوقت الحالي، فنسبة موتك على يد شخص آخر تضاءلت إلى حد كبير، وهذا ما يسميه عالِم النفس ستيفن بينكر «انتصار الجانب الملائكي في طبيعتنا البشرية»، وهو يعني تغلب الجانب الخيِّر في شخصياتنا على الجانب الشرير، وذلك حدث لأسباب موضوعية، وليس بالصدفة. تمدن سلوك الإنسان بسبب انتصار ثقافة العقل على الخرافة منذ عصر التنوير الأوروبي، ساهم في طرح أسئلة مهمة لا يمكن تجنبها عن منطقية قضايا أخلاقية مثل العبودية والتعذيب، وتبع ذلك صعود ثقافة الحقوق الإنسانية، وهي التي كانت المنطلق الذي أعاد للنساء والأطفال والجماعات الإثنية حقوقها المسلوبة، وبالطبع؛ فإن توسع التجارة العالمية كان سبباً في خلق موجة السلم الطويلة هذه التي نعيشها، بسبب المصالح والمشاريع المشتركة التي تزيد من فرص التعاون وليس العداء بين الناس.
غياب هذه التطورات السياسية والفكرية عن مناطق أخرى في العالم، مثل الشرق الأوسط وأفريقيا، هو ما يفسر زيادة عدد الضحايا فيها. ورغم هذا، وعلى عكس التصور الحالم للماضي والمتشائم للواقع، فإن الأحفاد أكثر سلمية ومدنية من الأجداد وأقل عنفاً، وهذا أمر يدعو للتفاؤل.