توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

تفكيك التداخلات

بعضنا يلحُّ على أنَّ الدين شرطٌ لنهضة العرب. وبعضنا يقول بعكس هذا، إنَّ ترك الدين شرطٌ للالتحاق بركب الحضارة. ثمة فريق ثالث - وأنا منهم - ينفي وجود علاقة سببية بين الدين والتقدم. بمعنى أنَّ الدين يمكن أن يحفزَ المؤمنين للنهوض العلمي، ويمكن أن يثبطَهم. يمكن للدين أن يتعايشَ مع التخلف أو مع التقدم من دون فرق تقريباً.
كان المرحوم مالكُ بن نبي بين المفكرين الذين أكدوا علاقةَ الدين بالنهضة. لكنَّه في التحليل النهائي جعل تلك العلاقة مشروطةً بعوامل خارج إطار الدين. وهو يقول إنَّ «الدين لم يخرج من النفوس، لكنَّه فقد فاعليته». ويستشهد بمثال في غاية البساطة؛ كانت أمهاتُنا يعانين من ألم الظهر يومياً حين يستعملن المكنسة القصيرة، لكن أياً منهن لم تفكر في إضافة عصا طويلة كي تواصل التنظيف من دون أن تنحني. لقد انتظرن عشرات السنين، حتى جاء الأوروبيون بالمكنسة ذات العصا الطويلة، التي خلصتهن من الألم.
لم يكن الدين حاجزاً لهن عن التفكير في هذه المشكلة الصغيرة وحلّها. لكن الدين لم يكن محفزاً أيضاً، رغم أنَّ مالك كان يراه عاملَ ربطٍ مناسباً بين العناصر الثلاثة التي تحتاجها الحضارة، أي الإنسان والتراب (الطبيعة) والزمن.
وفي تجارب البشر أمثلة عديدة عن مجتمعات متدينة وأخرى غير متدينة، نهضت أو تخلفت. فلا الدين منعَ الذين أرادوا النهوض، ولا هو الذي حفز الخائبين. وأمَّا ما يقال من نهوض العالم الإسلامي في عصره القديم، فلا شكَّ أنَّ الإسلام كان له دور إيجابي، لكن هذا لا يثبت كون الدين علةً للنهضة، إنَّما يثبت أنَّ الدين لا يمنع النهوض. ولهذه المناسبة، أودُّ تنبيه القارئ العزيز إلى رؤية الفيلسوف ديفيد هيوم، القائلة بالتمييز بين اقتران شيئين أحدهما مع الآخر، زمنياً أو مكانياً، وبين كون أحدهما سبباً أو علة للآخر. إنّني لا أذهب مذهبَ هيوم في إنكار مبدأ السببية في غالب حالاته. لكن فيما يخصُّ موضوع نقاشنا، فإنَّ تكرار التجارب يؤكد أنَّ علاقة الدين بالنهضة لم تصل إلى مرتبة التقارن أو التزامن، فضلاً عن السببية.
إنَّ غرضي من التأكيد على هذه المسألة، هو تفكيكُ التداخلات المفتعلة بين الدين والظواهر الحياتية الأخرى. وأتذكّر في هذه اللحظة خطبة للرئيس السوداني السابق عمر البشير، بعيد استيلائه على الحكم في 1989 افتتحها بالآية المباركة «وَلَوْ أَنّ أهلَ القُرَى آمنوا واتقوا لفَتَحْنَا عليهم بركاتٍ من السماءِ والأرضِ». فقد لاحظت أنَّ الصحافة الإسلامية احتفت بهذا الكلام أيَّما احتفاء، ورأيت كثيراً من أشقائنا السودانيين في غاية التفاؤل بأنَّ البلد واقتصاده يتهيأ لنهضة واسعة. لكنَّنا نعلم أنَّ السنوات التالية شهدت تدهور اقتصاد السودان، وخسارة نصفه الغني بالنفط والثروات الطبيعية الأخرى.
كان مالك بن نبي قد حذَّر من هذا الربط اللاعقلاني، واعتبره نوعاً من «الانقياد الأعمى إلى الدروشة». إنّي أرى كثيراً من المؤمنين اليوم، يظنُّ أنَّ مجرد التدين سيؤدي إلى التقدم والحضارة، وأنَّ عدمَ بلوغنا هذه المرتبة سببه قلة إيماننا. لكن هذا مجرد وهم أو «دروشة». ولو كان صحيحاً لكانت قندهار هي عاصمة العلم والمال في العالم، وليست واشنطن.
ثمة من يظنُّ أنَّ نفيَ العلاقة المذكورة تهوينٌ من شأن الدين الحنيف، وأنَّ تبجيلَه يقتضي نسبةَ كل محبوب اليه. واقع الأمر أنَّ كل شيء في هذه الحياة له دور يؤديه وغاية يصل إليها، فما الداعي لربط التبر بالطين؟