عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

صراع الأجيال بعد الحرب الثقافية

تراجعت شعبية حزب المحافظين لدى الناخب البريطاني لتسبقه المعارضة العمالية بنقطتين إلى 35 في المائة.
السبب مراهنة رئيس الحكومة المحافظة بوريس جونسون، الذي استغل الأغلبية الكبيرة في برلمان وستمنستر، ليمرر قانون برفع الضرائب لدعم الرعاية الصحية، مثبتاً القاعدة المعروفة: الناخب يرفض زيادة الضرائب، حتى ولو كانت لإطعام بقرة مقدسة لدى الشعب مثل «خدمة الصحة القومية».
تمرد بعض نواب الحكومة، وصوتوا مع المعارضة، أو امتنعوا عن التصويت، مخالفة لتعليمات إدارة الحزب (وكنيتهم «حاملو الكرابيج»).
جازفت حكومة جونسون، مساء الأربعاء، بالزيادة الضريبية الجديدة (لتوفير عشرة مليارات جنيه - أو 14 مليار دولار - لتمويل الرعاية الصحية الاجتماعية، خصوصاً للمسنين والعجزة) بأغلبية أكثر من 70 صوتاً. كان ضمن نواب الحكومة المتمردين وزراء سابقون. الزيادة تتمثل في 1.5 في المائة فيما يعرف بتمغة الرعاية الاجتماعية، وهي ما يدفعه متلقي أي دخل من وظيفة أو عمل حر أو استثمار، بجانب نسبة مساوية يدفعها أصحاب الأعمال والشركات التي توظف هؤلاء العاملين، وأيضاً زيادة في الضريبة التصاعدية التي تستقطعها الخزانة من العوائد على أرباح الأسهم والاستثمارات. تمرد بعض النواب، والتعليقات السلبية من المعلقين المحافظين، لا يرجع فقط إلى التراجع عن الوعود الانتخابية بعدم زيادة الضرائب، بل لما يمثله ذلك من انحراف واضح عن مبادئ المحافظين وفلسفتهم في الحياة، كما أنه غارة عدوانية غير مسبوقة على كبار السن والمتقاعدين؛ فالزيادة الضريبية تستهدف مدخرات التقاعد في شكل الأسهم وسندات الاستثمار، وإنهاء استثنائهم من دفع تمغة الرعاية الاجتماعية.
تساءلت العناوين الصحافية: «هل لا يزال بوريس جونسون محافظاً؟».
جونسون كان نشر كتاباً عن مثله الأعلى، زعيم العالم الحر أثناء الحرب العالمية الثانية، السير ونستون تشرشل (1874 - 1965)، كما يعد من تلاميذ فلسفة الليدي مارغريت ثاتشر (1925 - 2013). ولا يوجد سياسي محافظ حقيقي إلا ويعلق في مكتبه صورتي تشرشل وثاتشر جنباً إلى جنب.
تتلخص قيم المحافظين، اجتماعياً، في سمو الأخلاق والوفاء بالوعد والمحافظة على الأسرة كركيزة المجتمع؛ وسياسياً، الليبرالية التعددية والديمقراطية وحرية الفرد في الاختيار دون فرض القيود عليه؛ والأهم المبادئ والأسس الاقتصادية بإطلاق المبادرة الفردية في الاستثمار، وتشجيع الطموح العصامي، بإتاحة الفرصة للنجاح، بصرف النظر عن أي خلفية اجتماعية أو عرقية أو دينية، وتقليل عراقيل البيروقراطية واللوائح الضريبية.
أكثر ثلاثة من الوزراء البريطانيين المحافظين اليوم نجاحاً في مجال الاستثمار والبنوك والاقتصاد، حتى قبل الانخراط في السياسة، عصاميون من أبناء المهاجرين. وزير المالية ريشي سوناك، ابن مهاجر هندي؛ ووزير الصحة ساجد جاويد، ابن مهاجرين باكستانيين؛ ووزير التطعيم والوقاية الصحية ناظم زهاوي، مهاجر كردي فر من بطش صدام حسين في صباه. الثلاثة من المدرسة الثاتشرية في السياسة والاقتصاد.
هل ما زال جونسون محافظاً، أم أصبح نسخة من الزعيم العمالي الأسبق توني بلير؟
فبجانب نكث الوعد الانتخابي، فإن رفع الضرائب يعد وسيلة الاشتراكيين لمعاقبة النجاح بفلسفة الحقد الطبقي ويناقض الحكمة الاقتصادية.
فالتأميم والاستيلاء على ممتلكات الأثرياء قد تضمن، نظرياً، دخلاً للخزانة العامة على المدى القصير، لكنه بعد بيع الممتلكات ودفع المرتبات والإنفاق على الخدمات لن تبقى وسائل إنتاج لتأميميها، ويهرب المستثمر، وتضطر الحكومة للاستدانة للإنفاق على الخدمات، على المدى الطويل، ولا مفر من زيادة الضرائب لتمويل دفع فوئد الديون.
وبعكس الاشتراكية، فإن سياسة تخفيض الضرائب سينتج عنها زيادة دخل الخزانة على المدى الطويل، وبدوره زيادة إمكانية الإنفاق على الخدمات، مثلما تشير الإحصائيات إلى سنوات الرخاء التي تبدأ في خلال أقل من عامين من تخفيض الضرائب.
تخفيض الضرائب يزيد من ربحية المنشآت الكبيرة، فتوسع من استثماراتها، وتخلق فرص عمل جديدة لموظفين يدفعون ضرائب دخول بدلاً من تلقي إعانة البطالة؛ وأرباح حملة الأسهم إما تحولهم إلى مستثمرين يساهمون في الإنتاج، أو تزيد من قدراتهم الشرائية، فينفقون على مصنوعات تروج من التجارة وأسواق الاستهلاك والمنتجات الصغيرة والترفيه، فزيادة الإنفاق تتحول إلى دخول يدفع أصحابها ضرائب.
أما زيادة الضرائب فتقلل من القدرة الشرائية، أي تقشف المستهلك، وانكماش الاقتصاد، ومع ذلك تستمر الأنظمة الاشتراكية بالبلدان غير الديمقراطية في الالتزام بها، وتؤدي إلى تخريب الاقتصاد، أما في بلدان الديمقراطيات البرلمانية كبريطانيا، فلا تزال الأحزاب الاشتراكية واليسارية تدعو إلى هذه السياسات، رغم تكرار فشلها وأثرها الضار على الاقتصاد.
أدت سياسات الحكومات العمالية، في ستينات وسبعينات القرن الماضي، بتأميمها الاستثمارات ورفع الضرائب إلى زيادة مديونية الحكومة، ولم ينتعش الاقتصاد البريطاني إلا في النصف الثاني من حكم المحافظين. المفارقة أن تطوير توني بلير ووزير ماليته غوردون براون، لسياسات «حزب العمال» (بالتخلي عن تأميم وسائل الإنتاج)، أكمل مسيرة تحرير الاقتصاد الثاتشرية في حكومات المحافظين الأربع (1979 - 1997)، فتحول اقتصاد بريطانيا إلى رابع أقوى اقتصاد في العالم بالعقد الأول من الألفية الثالثة. أما جونسون فيتخذ إجراءات أكثر ملائمة لسياسة العمال قبل تطويرات بلير، منها لسياسات المحافظين.
جونسون متهم بركوب الموجة السائدة التي فرضها التيار اليساري الليبرالي المهيمن على صناعة الرأي العام مثلما أشرنا الأسبوع الماضي، خصوصاً مع فرض ضريبة على المتقاعدين من دخول استثمارات المعاش. فبعد الصراع الطبقي، والحرب الثقافية، بدأ اليسار في السنوات الأخيرة حرب الأجيال بشن الهجوم على كبار السن، ودعوة وزارة المالية للإغارة على ممتلكاتهم ومدخراتهم بوسائل ضرائبية.
تصاعدت حملة اليسار الليبرالي على المسنين بعد «بريكست»، فنسبتهم كانت الأعلى بين الأجيال المختلفة في التصويت بالخروج من الاتحاد الأوروبي. كما أن شرائح المتقدمين في السن يصوت أغلبهم للمحافظين، ويسخرون من هيستريا البيئة والتغير المناخي التي أصبحت بقرة مقدسة. منابر الصحافة اليسارية والاشتراكيون يدعون إلى فرض ضرائب باهظة على عقارات ومساكن كبار السن، بحجة أن قيمتها عالية نسبياً.
السبب الرئيسي في تصعيد الهجوم على المسنين أن خبرة الحياة وتجاربها تجعلهم يزنون الأمور بعقلانية، وأكثر شكوكاً في مبررات الساسة والمنتفعين من التغيرات الاجتماعية من الشباب المندفعين، ولذا، فالاستقلال الاقتصادي للمسنين يجعلهم عائقاً كبيراً أمام تنفيذ أجندة حملة السيطرة على الرأي العام التي يقودها اليسار.