إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

ظهيرة 11 سبتمبر في باريس

تستوقف كاميرات التلفزيون الناس في الشوارع لتطرح عليهم السؤال: «أين كنت عندما رأيت تفجير برجي نيويورك؟». سؤال يذكرني بجيل من العراقيين اعتاد أن يروي كل منهم ردة فعله حين سمع من الإذاعة البيان رقم واحد، عام 1958، وإعلان الجمهورية والقضاء على الملكية.
ظهر لدينا، في العراق، زمن جديد يتحدد بما قبل الثورة وما بعد الثورة. وها نحن، بعد أزيد من نصف قرن، نشهد التاريخ الحديث ينقسم إلى ما قبل الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 وبعد الحادي عشر منه. حدث مروع ترك من الآثار ما يعادل الكوارث الكبرى. ويا لوجع قلوب العراقيين الذين دفعوا الثمن الأفدح عن جريمة هم منها براء.
بعد ظهيرة ذلك اليوم، اتصل بي ولدي ليقول بصوت متهدج: «هل ترين يا أمي ما أرى؟». وكنت واقفة أمام الشاشة في بيتي، متحفزة غير قادرة على الجلوس، أحاول أن أفهم ما يحدث أمام ناظري. ويخيل لي أني سمعت شباباً عرباً في الجوار يصخبون ابتهاجاً. لذلك لم أرد على ابني سوى بعبارة واحدة. أن يتفرج وهو ساكت. «دخيل الله لا تنطق بكلمة».
أدركت أن التبعات ستكون ثقيلة على العرب المقيمين في الغرب. وتنازعتني في الوهلة الأولى مشاعر متضاربة. فكرت بما فعلته الولايات المتحدة في بلدي. تتابعت في خاطري صور بشعة من قصف ملجأ العامرية في بغداد. أفكار لم تدم سوى لحظات. إذ حالما بدأت الأجساد تتساقط من نوافذ البرجين المحترقين استعدت صوابي وفهمت ما كان يجري. هذي جريمة في حق رجال ونساء أبرياء.
لم أصدق، أول الأمر، أن تنظيم القاعدة القابع في الكهوف البعيدة قادر على التخطيط لذلك العمل الإرهابي المعقد، متعدد الأهداف. ثم بدأت الخيوط تتكشف والحيرة تتزايد. أي عقل جهنمي اختطف الطائرات ورسم تلك المسارات؟ قلت لنفسي إن هناك ذكاء يشتغل في الخير وذكاء يبدع في الشر، عقولاً تخترع ما يشفي ويريح ويسهل حياة البشر، تقابلها أدمغة تجد متعتها في التدمير. وها هي فرنسا تحاكم، حالياً، جريمة مسرح «باتاكلان». يوم تدججت نفوس مريضة بالرشاشات والمتفجرات وذهبت لتخطف 130 روحاً بريئة جريرتها أنها تحضر حفلاً للموسيقى أو تتناول عشاءها في مطعم.
تغير العالم بعد تفجير البرجين. فقدت أميركا ثلاثة آلاف ضحية في ذلك الصباح. ولكي تنتقم لهم ضحت بأكثر من أربعة آلاف قتيل في حربها على العراق. ولنضع جانباً خسارتها في أفغانستان. وما بين هذه وتلك تبددت آلاف المليارات. نشأ واقع جديد من التحصينات والجدران الإسمنتية على الأرض وإجراءات الحذر في الرحلات الجوية، في السماء. تخلع سترتك وحزامك وحذاءك في المطار وكأنك داخل إلى حمام. تمر عبر أجهزة الرصد وكأنك مجرم. صارت التأشيرات من الأمنيات، وحامل الجواز العربي مشبوهاً حيثما تنقل. أقفلت الدول حدودها أمام المهاجرين وارتفعت أسهم اليمين المتطرف والأحزاب العنصرية. ما عاد أنصارها يخجلون.
أقيم في برج سكني يقابل مستشفى «لا بيتييه» الأكبر في أوروبا. ليس بيننا سوى الشارع. يحدث كثيراً أن تأتي طائرات الإسعاف العمودية وتحط على سطحه، تنقل جرحى الطوارئ وحوادث الطرق. أتابع بعين القلق حركتها من شرفتي. فكلما أقلعت طائرة منها وحلقت جنوباً ينتابني هاجس بأن معتوهاً قد يقودها إلى مطبخي.