حنا صالح
كاتب لبناني
TT

«أم المعارك» بقاء عون في القصر!

اليوم (الخميس) يكون المتبقي 418 يوماً من زمن ولاية الرئيس ميشال عون. كثيرون هم الذين يعدّون الأيام، وقناعتهم تامة أنه عهد الانهيار الذي أوصل اللبنانيين إلى الجحيم، وعهد تضييع أمانة الحفاظ على الدستور والاستقلال. والحقيقة أن الطبقة السياسية شاركت عون وباسيل و«حزب الله» المسؤولية عن انهيارات أوصلت البلد إلى الحضيض، ومن ضمن ذلك المسؤولية عن جريمة تفجير المرفأ، ونهب الودائع، إلى بقية المثالب!
زحفت المجاعة، وتعمّق البؤس، والبلد الذي حوّلوه مقبرة مفتوحة بات رصيف هجرة، بدأها الأثرياء، وتشمل الآن الكفاءات؛ الثروة الحقيقية للبلد، لتتردد عبارة وداعٍ واحدة لفلذات الأكباد: ما ترجعوا...! فإلى هذا الحد باتت هذه الأرض ملعونة، أم اللعنة في مكانٍ آخر! واللافت هنا صدور نحو 260 ألفاً من جوازات السفر الجديدة في أشهرٍ معدودة، مع تقدير بأن الهجرة القسرية الحالية، ستحاكي في سنة واحدة هجرة الحرب الأهلية، والسؤال؛ ماذا سيترتب من نتائج ارتباطاً بهذا الحجم من التغيير الديموغرافي والنوعي؟!
لكن مهلاً، لقد خاض عون أعتى «المعارك» على مدى 58 شهراً، فترة جلوسه على كرسي الرئاسة، ارتبطت كلها بما سيكون عليه الوضع بعد انتهاء ولايته في 30 أكتوبر (تشرين الأول) 2022! ولأن هذه المسألة شكّلت الهاجس الأكبر للقصر، فقد تجاهل أن الفراغ الحكومي استهلك من رئاسته ما يزيد على 23 شهراً، أي ما يعادل 40 في المائة! فما هو الأمر الجلل الذي من أجله تكرّست هذه الملامح للفترة الرئاسية، بحيث تمدد الفراغ، فشمل كل المؤسسات، وتقدم مخطط قضم مفاصل القرار، وعجزت الرئاسة، رغم المساحيق، عن تغطية مشروع الهيمنة الخارجية، الساعي إلى تغيير وجه لبنان، وبدا البلد وكأنه سُلبت روحه مع تعمق ظاهرة انفصام الحكم عن الواقع!
الارتهان للخارج جعل ظاهرة مثل تحكم لصوص السوق السوداء بالعباد وانتهاك الحقوق وكأنها من عاديات الأمور. اهتز العالم أمام هول التفجير الهيولي الذي دمّر المرفأ وقلب العاصمة، لكن ذلك لم يؤثر في تعاطي أو سلوك الجالسين على مقاعد الحكم الوثيرة، وبأي حال كان بوسع عون، كما غيره من كبار المسؤولين، منع الإبادة الجماعية، لكن أحداً لم يفعل، واليوم مفهوم منحى الحملات التي تُشن لتهريب المدعى عليهم من القضاء. كذلك تحولت إلى حالة منسية طوابير المتكدسين في السيارات حول محطات الوقود، وأمام الصيدليات والمستشفيات والأفران، ولم يتوقف مسؤول أمام المظاهرة – الحدث التي نظّمها مرضى السرطان وسط العاصمة بعدما حُرموا من الدواء ووجدوا أنفسهم عُزلاً في مواجهة الموت!
همّ رئيسي سيطر على المقيم في القصر، هو بقاء رئاسة الجمهورية ضمن العائلة، وبالتحديد انتقالها من العم إلى الصهر، النائب جبران باسيل المعاقب دولياً وفق «قانون ماغنيتسكي»! ومن أجل هذا الهدف فُرضت على لبنان فواتير غير مسبوقة لا قدرة لدى الناس على تحملها! والرهان الدائم أنه يمكن الاستناد إلى فائض قوة الدويلة لفرض هذا المنحى، وإن تعذر، يتم تعطيل الاستحقاقات الدستورية، فيمدد عون فترة البقاء في القصر. وبانتظار التحولات، تستمر ميليشيا «حزب الله» بإدارة الدولة وفق مقتضيات الأجندة الخارجية، وينتظر رئيس «العهد القوي» مكافأة تغطية اختطاف الدولة وارتهان البلد لهذا المحور!
بعد سنة وشهر على سقوط حكومة حسان دياب، والإفشال المتتالي لـ3 مكلفين بتأليف حكومة جديدة، ما اضطر مصطفى أديب للاعتذار، ومثله سعد الحريري بعد 9 أشهر، ونجيب ميقاتي على طريق الاعتكاف اليوم، يتأكد أن «أم المعارك» التي يخوضها عون، تكمن في تحضير الأجواء والمناخات، التي يظن أنها تغطي اعتزامه البقاء في القصر وفي رئاسة الجمهورية! ويبدو أن جوقة من «الدستوريين» يدبجون منذ فترة دراسات قانونية تقول بعدم جواز الشغور في موقع رئاسة الجمهورية، وهو المركز الماروني الأول! لذلك هم يستثمرون في الانهيارات والمآسي، لتمرير مخطط مفضوح، بدليل المطالبات التي تطلقها الجهات الدولية لإلزام الحكم بالمواعيد الدستورية؛ الانتخابات البرلمانية في مايو (أيار) المقبل، والرئاسية في أكتوبر!
احتدم الصراع على المحاصصة الحكومية، ولافتٌ إصرار عون على حكومة يتحكم في قرار استمرارها أو إقالتها، لأن غير ذلك سيعني تراجع حضوره بعدما تجاوز الدور الطبيعي لرئيس البلاد، في مرحلة حسان دياب، قبل الاستقالة، وخصوصاً بعدها. هنا خلق المفاجأة الرئيس السابق ميشال سليمان، فغرد على «تويتر»: «عام 2013 جاء من ينصحني بتعقيد عملية تشكيل الحكومة كي أستمر في الرئاسة في ظلِّ حكومة مستقيلة. أبلغتهم أنني لا أرغب في البقاء، فعملت على تسهيل التشكيل، وفي كل الأحوال هذه الفتوى لم أقتنع بها».
وكم هو الشبه كبير بين اليوم والبارحة. في تلك الفترة كانت طهران تحتجز التأليف بانتظار التقدم في مفاوضات الاتفاق النووي، كما هو حاصل اليوم. لذلك يناور عون وبين يديه فتوى وضعها القاضي بيتر جرمانوس لتمديد البقاء في الرئاسة (...)، أعاد إحياءها المستشار الرئاسي سليم جريصاتي. والأمر الذي يستحق التوقف عنده أن الزيارات الرئاسية الفرنسية، والمناشدات والتهديد بالعقوبات، كما الترغيب بأن وجود حكومة حدٍ أدنى مفتاح لتوفير بعض الدعم لم تفعل فعلها، لذا ما من شيء يؤكد أن مواقف التمني الخارجية اليوم ستجعل حاملي الأختام يلتزمون المواعيد الدستورية!
الذرائع لنسف الاستحقاقات كثيرة وواهية، ويعتقدون أن التأجيل سيغدو طبيعياً مع اتساع الفوضى المعيشية وتردي الأوضاع الأمنية وارتفاع معدلات الجريمة، حيث مفتاح الانفلات الأمني بيد منظومة الحكم، التي شجّعت بروز عصبيات مناطقية وتوترات طائفية كامنة، ترافقت مع ما أفرز غياباً لافتاً لكل السلطات والمؤسسات والأجهزة! مثل هذا المنحى ستحتضنه القوى السياسية التي تعاني أزمات عميقة مع ما كان يعتبر بيئتها الانتخابية وشارعها... وبمعزل عن الصراع الدائر حول حقيبتي الداخلية والعدل، لما لهما من تأثير على العملية الانتخابية، فإن هذه المسألة ليست على جدول أعمال أكثرية الكتل السياسية.
ببساطة، إن أي انتخابات ستحمل تهديداً بشطب تيار عون من المعادلة، فيما صدع كبير يضرب تيار الحريري المتراجع بقوة، حتى إن «حزب الله» وهو من يقود المنظومة السياسية، لا يريد انتخابات، لإدراكه حجم الثقوب في بيئته، التي لم تعد تقتصر على ما كان بيئة (حركة أمل). والأكيد أنه لن يقبل المجازفة بسيطرته الراهنة على البرلمان، كما لن يرضى نهاية احتكار التمثيل الشيعي، وهذا الأمر كان موضع تباهي نصر الله، غداة انتخابات العام 2018! لكل ما تقدم ستطول أزمة التأليف، لأن عون يعتبر الفراغ حليفه، والتأليف شرطه الاستئثار بالقرار الحكومي، كون التسلط أمراً متجذراً عنده، فهل يكفي ذلك «حزب الله»، كي يغطي كل هذا الجموح، وهو الباحث عن تجارب أخرى مع آخرين تخفف عنه الأعباء؟