من الأخطاء السياسية المدمرة تصور أن ما يجري على المسرح، وما يقال على السطح، هو «الحقيقة» أو هو «كل شيء»، أو أن السياسة تستقى من «طرح الإعلام السياسي» الذي هو نفسه - في كثير من الأحيان - يكون مجرد تغطية لما يدبر في الخفاء أو «تحت الطاولة» لتحقيق أهداف هي نقيض ما يطرحه الإعلام السياسي!!
ولنضرب لذلك مثلين اثنين:
1) المثل هو ذلك الشيء الذي سموه «الربيع العربي».. فقد حمل كثير من المثقفين والإعلاميين هذا المصطلح، اللامع المثير، على ظاهره. وطفق فلاسفة هذا الربيع – ودراويشه - يلحون على الرأي العام العربي بشعارات ومفردات من مثل «الآن.. الآن انطلقت النهضة العربية الحقة».. «هذا فجر جديد للقضية الفلسطينية».. «لن يشهد الوطن العربي بعد الآن أي نوع من أنواع الاستبداد».. «بعد حقبة طويلة من التعطش للحرية جاء الربيع العربي بأنهار رائقة من الحرية التي ستروي هذا الجيل والأجيال القادمة على مدى حقبة طويلة قد تمتد إلى قرن من الزمان».. «الاستبداد قتل التنمية فجاء هذا الربيع ليضخ في شرايينها الحياة والفتوة والعنفوان».. «في حقيقة الأمر يتوجب تسمية هذا الحراك بالربيع الإسلامي، فببركته ارتفع الصوت الإسلامي وأخذ الإسلاميون طريقهم إلى الحكم والسلطان».. «حتى لا تترك هذه الظاهرة من دون تأصيل، نقترح إنشاء مركز دراسات لتأصيل ظاهرة الربيع العربي».. «انطلاقا من الربيع العربي نستطيع أن نقول: وداعا للانقلابات العسكرية».. إلى آخر هذه الشعارات والمصطلحات والعناوين والمفردات الموغلة في السطحية.
وبمقياس الواقع: هل كانت تلك المفردات صادقة، أو لها حظوظ في واقع الحياة؟ لا.. لا.. لم نشهد نهضة عربية جديدة، لا على مستوى قطري، ولا على مستوى قومي، ولم نرَ فجرا جديدا للقضية الفلسطينية، بل العكس هو الصحيح.. ولم يسجل الخط البياني للتنمية معدلات أعلى جديدة، بل العكس هو الصحيح. ولم يكن ذلك الربيع العربي توديعا لعهود الانقلابات، بدليل أن انقلابات عسكرية حدثت في ظل راياته!
وهذا المثل يدل على أن «السياسة» لا تؤخذ مما يجري على السطح، ولو كان ما هو على السطح عالي الدوي والطنين، كثير المنبهرين والمصفقين، مزدحم الحجاج واللجاج.
2) المثل الثاني: ما يجري حول سوريا. فقد صعّدت قضية السلاح الكيماوي السوري تصعيدا بلغ الذروة من التأجيج، وامتلأ بشحنات نذر الضرب والسحق.
كان هذا هو «ظاهر الأمر» الذي بنيت عليه آراء ومواقف: في الحاضر والمستقبل.
ثم بردت الأوضاع بغتة!!
بردت بما عرف بـ«المبادرة الروسية» المركبة من شقين:
أ) شق وضع الكيماوي السوري تحت «رقابة دولية».
ب) يقابله شق آخر وهو: أن تتفادى سوريا تدخلا عسكريا أوشك أن يكون.
كيف حدث ذلك!
«الرؤية السياسية» – غير السطحية - تقول: لئن فوجئت الأطراف المختلفة، وفوجئ العالم كله، بهذا التبدل العجيب في المسرح السوري والسياسة الدولية، فإن أمرا كبيرا خطيرا كهذا لا يتم بين يوم وليلة. لا يتم في لقاء عابر – وعابس - بين بوتين وأوباما في قمة العشرين التي انعقدت في روسيا منذ قريب.. يترتب على هذا مقتضاه - بطبيعة الحال.. ومقتضاه هو أن تدابير مكثفة ونشطة كانت تُعد وتُهيأ في ما وراء الظاهر والسطح.. ولعل لافروف – وزير خارجية روسيا - قد قصد التعبير عن شيء من هذا حين قال: إن المبادرة ليست روسية خالصة، فقد كان الأميركان حاضرين فيها، وقد جرى التنسيق معهم بشأنها.
متى حصل التنسيق والتفاهم والتدبير؟
حصل بينما «سطح» المسرح كان يموج موجا بالاستعداد العسكري الجدي، وبينما كان الإعلام السياسي منشغلا بتحديد يوم الضربة وساعتها ونوعيتها (قصف جوي بالطيران أم رمي صاروخي من البحر)!!
ثم هل يدخل في هذا «التبدل» المذهل: التركيز على «الكيماوي السوري».. بمعنى أن يُجعل هذا الكيماوي هو القضية الأساس أو الكبرى، تمهيدا لاستقطاب الرأي العام العالمي حولها.. ثم في هذه اللحظة ذاتها يطرح حل «روسي - أميركي» لعلاجها من خلال إخضاع الكيماوي لرقابة دولية، ابتغاء أن يتنفس العالم نفسا طويلا مريحا بعد زوال الغمة، أو بعد التبشير بحلول ناجعة لإبعاد شبحها عن الإقليم والعالم.
نعم.. قد يدخل التركيز على الكيماوي في سيناريو تقديمه على غيره من قضايا سوريا الأخرى، ذلك أن هذا الكيماوي إنما هو (فصل) واحد من فصول كتاب سوريا الأكبر.. فلماذا يحصر الصراع في هذا الفصل - على أهميته وخطورته؟!
وهل يربح النظام السوري من هذا التبدل في المواقف الدولية؟
هنا تبرز قضية «السيادة»: كيف يرضى النظام السوري بإخضاع سلاحه الكيماوي لرقابة دولية يليها إتلاف هذا السلاح وتدميره، في سوريا أو خارجها؟
قد يقول النظام وأنصاره: إن السيادة – على أهميتها - «فرع» من الكينونة الوجودية ذاتها.. فما معنى السيادة إذا كان أصل وجودها مهددا بالزوال أو الهدم؟!
بيد أن السؤال الأهم والأعمق هو: ماذا سيقدم المجتمع الدولي للنظام السوري مقابل إخضاع سلاحه الكيماوي لرقابة دولية وإجراءات أخرى عديدة؟
لعل الربح السياسي المتوقع تقديمه للنظام السوري هو بقاؤه واستمراره مع إضافات تعديلية وتجميلية في أداء النظام وتعامله مع الشعب السوري.. وأول قطفة في هذا الربح هي «العدول» عن توجيه ضربة عسكرية إليه: اليوم، أو غدا، أو بعد غد!!
ما هي مكاسب روسيا؟.. مكاسبها أنها استطاعت أن تثبت أنها «لاعب دولي قوي» في الشرق الأوسط.. وأنها قد حققت هذه المكاسب، ليس بعبقريتها الفذة، وإنما حققتها بالاستفادة من أخطاء الغرب وغباوة سياسته في الشرق الأوسط، وأن بوتين تغلب على أوباما دبلوماسيا
ما هي مكاسب أوباما؟.. لعلها الوفاء بما وعد به الشعب الأميركي في حملاته الانتخابية وهو أنه لن يكرر «السوابق الخائبة» للجمهوريين في أفغانستان والعراق.. ولعلها المحافظة على صورته كرجل سلام يحمل جائزة نوبل للسلام!!
ولعلها انتزاع مكاسب من روسيا في قضايا عالمية أخرى مقابل العدول عن ضرب سوريا. بيد أنها مكاسب محفوفة أو معجونة بسلبيات وخسائر عديدة منها: ضعف دور أميركا في الشرق الأوسط - وفي غيره أيضا.. واهتزاز ثقة حلفاء أميركا بها.. وسقوط وتناقض شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان الذي يلوح به الأميركان بالغدو والآصال، كرسالة حضارية أميركية ثابتة لا تخضع لمعايير المصالح المادية، ولا الألاعيب والمقايضات السياسية!!
8:37 دقيقه
TT
وبغتة.. برد سطح المسرح الساخن بـ«المبادرة الروسية»!!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة