د. ياسر عبد العزيز
TT

«طالبان» تحكم أفغانستان... ماذا عن الإعلام؟

في الأسبوع الماضي، كانت كلاريسا وورد، كبيرة المراسلين الدوليين في «سي إن إن»، تقف، مرتدية الحجاب، أمام مقر السفارة الأميركية في كابُل، لتسأل عدداً من قادة «طالبان» بعض الأسئلة، في ظل التطورات المحمومة التي تشهدها أفغانستان، منذ سقطت عاصمتها في أيدي مقاتلي الحركة، الذين هيمنوا على مقاليد الحكم.
سألت المراسلة قيادياً في الحركة: «ماذا تقول عن الأميركيين؟»، فأجاب: «لقد أمضت الولايات المتحدة هنا وقتاً طويلاً، وخسرت أموالاً وأرواحاً، وحان الوقت لكي ترحل»، أما رسالته للأفغان وغيرهم من المقيمين في البلاد، فكانت: «لا داعي للقلق».
وبمجرد أن أنهت المراسلة حوارها مع القيادي «الطالباني»، انصرف المقاتلون إلى تلقي التهاني من بعض أفراد الجمهور، كما بدأوا في الهتاف: «الموت لأميركا»، وهو أمر لم يربك كلاريسا وورد أو يخيفها على عكس المفترض، حتى إنها سارعت إلى شرح الموقف لجمهور الشبكة قبل أن تختم التقرير؛ قائلة: «إنهم فقط يرددون (الموت لأميركا)، لكن يبدو أنهم ودودون في الوقت نفسه. إنه أمر غريب للغاية».
ما حدث من هذا القيادي «الطالباني» لم يكن أمراً غريباً، كما تقول مراسلة «سي إن إن»، لكنه أمر مفهوم ومتوقع. إذ يبدو أن الحركة ستظل على ما هي عليه في إطار الشكل، لكنها ستقدم تنازلات عميقة في المضمون، فبعدما اعتمدت «طالبان» توجهات صارمة ودوغمائية خلال هيمنتها على الحكم في الفترة ما بين 1996 و2001، تتجه الآن إلى نسخة براغماتية وأكثر قابلية لتلقي الضغوط والتجاوب معها.
سيكون وجه الحركة البراغماتي الجديد متصدراً المشهد في التعامل مع الإعلام، ورغم أن الانتهاكات بحق وسائل الإعلام والصحافيين، خصوصاً النساء منهم، ستستمر، فإن ذلك لن يجري بصورة منهجية كما حدث سابقاً. وستتم تغطيته بتصريحات وتصرفات «طالبانية» تريد الإيحاء بأن الأوضاع لن تكون بالغة السوء، وأن المجال الإعلامي سيكون حراً، وأن النساء سيجدن الفرص للعمل فيه.
منذ اندلعت الأحداث الدراماتيكية الأخيرة، صدرت إشارات متضاربة عن «طالبان» تجاه المجال الإعلامي؛ فمن جهة، أقدمت الحركة على قتل المسؤول عن الإعلام في الحكومة المُطاحة دواخان مينه، حين كان يغادر مسجداً أدى فيه صلاة الجمعة الأولى من الشهر الحالي، وداهم مقاتلوها منزلاً للقبض على مراسل شبكة «دويتشه فيله» في كابُل، ولما عرفوا أنه غادر البلاد، قتلوا قريباً له.
وإضافة إلى ذلك، توقفت 35 وسيلة إعلام عن العمل تماماً، وأحكمت الحركة سيطرتها على أكثر من ست وسائل إعلام نشطة، وتم تغيير البرمجة في أقنية وسائل الإعلام الحكومية والخاصة، التي باتت تركز على بث تلاوة القرآن الكريم، وتُمعن في استضافة قيادات الحركة والإشادة بهم، فيما تقلل إلى أقصى درجة ممكنة من مواد الترفيه والموسيقى، تجنباً لاستفزاز «طالبان».
الأمم المتحدة كانت قد نددت في فبراير (شباط) الماضي بهجمات الحركة ضد وسائل الإعلام والصحافيين. ورصدت منظمات دولية معنية بحرية الصحافة الكثير من الانتهاكات بحق الإعلاميين، من بينها الضرب والتهديد بالقتل ومصادرة الأدوات وتدميرها، فضلاً عن استخدام قاعدة بيانات تركها الأميركيون في التقصي عن أسماء الصحافيين وعناوين منازلهم.
لكن من جهة أخرى، صاغت الحركة خطاباً أقل تصادماً مع المجال الإعلامي، وتعهدت من خلاله بترك المجال مفتوحاً للصحافيين والصحافيات للعمل، طالما أن هذا يجري ضمن حدود «القيم الأفغانية وتعاليم الشريعة الإسلامية». وأجرى مولوي عبد الحق القيادي البارز في الحركة لقاءً إعلامياً غير مسبوق مع مذيعة تعمل في محطة «تولو نيوز»، وفي هذا اللقاء، أظهر هذا القيادي تقبلاً لفكرة عمل الإعلاميات، ولم يكن حريصاً على تجاهل وجودها أو الاكتفاء بالنظر إلى الكاميرا.
حين هيمنت «طالبان» على حكم أفغانستان في نهاية القرن الماضي لم تبد هذا القدر اللافت من التسامح مع المجال الإعلامي، بل هي أخضعته بصرامة وغلظة لقواعدها. لكن الفترة التي تلت دحر الحركة في 2001، شهدت نمواً وازدهاراً لافتين في عالم الإعلام، إذ ظهرت منذ ذلك الوقت عشرات الفضائيات والمحطات الإذاعية والصحف، لتشكل واقعاً إعلامياً قائماً، بدا للحركة أن من الصعب إفناءه أو فرض رؤيتها عليه بالكامل.
«طالبان» تكره الإعلام المُنفتح، وتزدري حق النساء في العمل كصحافيات بطبيعة الحال، لكنها في نسختها البراغماتية الحالية ستُظهر قدراً من المرونة مع المجال الإعلامي، وفق ما تسمح لها قدراتها على تأويل الأحكام «الشرعية»، وموازنة الضغوط الأممية، وعندما تفرغ من خطة التمكين والاستقرار في الحكم، فإنها لن تتباطأ أبداً في فرض رؤيتها الصارمة على القطاع.