فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

قليل من التونسة... فينتعش القلب اللبناني

مصادفة تدعو إلى الاستغراب، وهي أن صفة الخير التي يحملها مشروع أو كيان حزبي اسماً، ليس ضمناً، كما المأمول من معناها. وما نعنيه بذلك اختيار أهل السُّلطة في إثيوبيا تسمية مشروعهم المائي «سد النهضة»، واختيار الأستاذ راشد الغنوشي «حركة النهضة» تسميةً لحزب يخوض غمار حراك سياسي مدثر بعباءة إسلاموية فضفاضة، ولا يكتفي بأن يكون جزءاً من كل الحالة السياسية رئيساً للبرلمان، وإنما يتطلع إلى أن يمسك بكامل السُّلطة بانياً في حساباته أن من وصل إلى سدة الرئاسة على أهون السبل مدني لا حول حزبياً له، ولا «لوبيات» من رجال المال والأعمال، ولا مواقف ذات جذور وتجارب تسانده، ولا ميليشيا غير منظورة يستطيع الاتكال عليها يأمرها فتطيع... فتنفذ... فتُحدث بلبلة... فتدخل البلاد في الفوضى... فيُشهر ورقة الأحقية الدستورية البرلمانية... فيمسك بمفاصل السُّلطة. أليس هذا ما حدث في مصر وأمكن في ظل ارتباكات وانتفاضة شعبية حصرت قضيتها «الشعب يريد إسقاط النظام»، ثم بعدما ارتأى المجلس العسكري أن ينصرف النظام أشخاصاً، وليس هوية، درءاً منهم بذلك فوضى تبدأ حراكاً شعبياً، وتنتهي إلى ما لا يُحمد عقباه، كانت مرحلة انتقالية ودستوراً جديداً وترؤساً على مضض لأحد الرموز الإخوانيين، الذي ساهمت إطلالاته وتصريحاته وحراكه الرئاسي عموماً في بلورة انطباع بأن القول قول محمد مرسي، لكن الفعل فعل الشاطر ومجلس الجماعة.
ما رأى الغنوشي إحياءه في تونس استند إلى أن المؤسسة العسكرية محايدة إلى حد في النزاعات السياسية، إلا أنها في الوقت نفسه تساعد التغيير السلِس، ولا تتقبل العاملين على تغيير بفعل فوضى، ولا حتى خطْف الرئاسة والبلاد من تاريخييها في عتمة ليل.
وما غاب عن بال الغنوشي أن الرئيس قيس بن سعيد يملك ورقة أساسية، وهي حالة الالتفاف الشعبي الأولى من نوعها في العالم العربي حول مرشح للرئاسة لا مال عنده ولا حزب، وإنما يملك خاصية الصدق والكف النظيفة والرؤية العصرية المتوازنة للمجتمع التونسي. ولم يخاطبهم باللهجة التونسية المطعّمة ببعض الأمثلة والتعابير، على أساس أن هذا التخاطب يحقق التفاف الناس البسطاء حوله، وإنما خاطبهم بالفصحى، لغة الأمة من المحيط إلى الخليج. وزيادة في التباهي بأحاسيسه العروبية غير المتناقضة مع مغاربيته، طرق أبواب أهل القرار الفاعلين من السعودية إلى مصر إلى المملكة المغربية، وأسعف بالود والنصيحة الشقيق الليبي الغارق في تناقضاته، والشقيق الجزائري الحائر في أمر خياراته، والشقيق الموريتاني المتطلِّع إلى إحياء صلاته التي اهتزَّت تحت وطأة أطماع لبعض ذوي السُّلطة.
هذه الإطلالات من جانب قيس بن سعيد حققت له التفافاً عربياً حول نهجه. ورأى الأشقاء عموماً في نهج هذا الرئيس بفرادته الأكاديمية، وكيف أدار بالحكمة والحنكة وطول البال، مع الالتزام بالمبدئية، المجتمع السياسي التونسي بكل التناقضات الموروثة فيه، أنهم أمام تونسة تذكِّر باللبننة كثيرة التوازن عربياً ولبنانياً في زمن الميثاق الوطني، في الأربعينات، مع الماروني بشارة الخوري، الحريص على سيادة الوطن واستقلاله، والسُّني رياض الصلح الذي طمأن نهجه الذين في نفوسهم حذر من العروبة. كما من شأن ثبات هذه التونسة وتحقيق النتائج المرجوة من مشروع الرئيس بن سعيد ضد الفساد والمفسدين وضد الأحزاب والحركات التي تعتبر الوطن، كما الحال في لبنان، ساحة للاعبين ومتلاعبين خارجيين، أن تكون نموذج إصلاح أحوال عربية كثيرة. ومثل هذه التونسة، أو حتى الخطوات المتدرجة منها، كفيلة بوضع لبنان على سكة الانطلاقة نحو التصحيح سياسياً ووطنياً، وبذلك تُستعاد اللبننة بمعناها الإيجابي. وأما إن الأخذ بالقليل من التونسة كفيل بإنعاش القلب اللبناني العليل، فلأن الرئيس قيس بن سعيد أرفق الحديث حول العلة بالإشارة في الوقت نفسه إلى العلاج، بمعنى أنه لم يكتفِ بتوصيف الداء الذي هو الفساد المستشري في أوصال الدولة، والممتد إلى مفاصل القضاء، وأن صوت الغنوشية يعلو من دون وجه منطق على صوت الدولة المتوازنة مدنياً - عسكرياً، وبما يعيد تونس إلى ما هو الطبيعي أن تكون عليه وطناً غير مختطَف من حزب وحكومة بإدارة نظيفي الأكفِّ المؤمنين بسيادة دولتهم وبأصول الحفاظ عليها، والسير على درب عودتها ساحة للاستثمار فيها بدل توظيفها مشاعاً لأغراب تائهين عن جادة الصواب.
ما ارتآه الرئيس قيس بن سعيد هو غسل الفاسدين والمفسدين من أدران استوطنت شهواتهم وعقولهم، وذلك من خلال دعوتهم إلى توظيف المال الذي نُهب في مشاريع كل في المنطقة التي ينتمي إليها، وبذلك تصطلح الأمور وينجو الفاسد والمفسد من غضب الله عليه. وصفة ناجعة هذه؟ إنها أكثر من ذلك. إنها نصيحة وأمثولة برسم أطياف كثيرة في الأمتين العربية والإسلامية وبالذات للذين لم يفسدوا بعد أن يتفادوا الإفساد، والذين سرقوا ألّا تتطاول أياديهم على أموال الغير وأملاك الدولة البحري منها والسهلي والجبلي. كما هي نصيحة وأمثولة لأصحاب المصارف الذين أغروا الناس بعوائد توظيف جني العمر، ثم ها هم مودِعو المال كالأيتام في مآدب اللئام. وتلك ليست كل حال اللبناني، ذلك أن الأحوال الناشئة عن حُكم أفسد وقلة من أحزاب وحركات وتنظيمات تعتبر الوطن بات رزقاً أو ارتزاقاً مالياً أو سياسياً، تستوجب كخطوة أُولى اقتباس التونسة أو القليل منها، إذا استعصى أمر الأخذ بالحذافير.
لكن الوصفة الأمثولة تحتاج في لبنان إلى صاحب قرار مِن نسيج قيس بن سعيد. وهذا مرجأ وجوده إلى حين طي صفحة حُكم بقي من عمر سطورها الأخيرة بضعة أشهر، وبدء صفحة حُكم جديد ينتشل لبنان من البئر التي وضعه فيها بعض أولي الأمر من أهل السُّلطة والأحزاب والحركات التي تستوطن لبنان وتتعامل معه على أنه ساحة وليس وطناً. والأمل معقود على الذي سينتشل ويخيب فعل الأبناء الذين رموا الوطن، كما رُمي يوسف في الجب والتذرُّع بأن الذئب أكله. لا سامح الله هؤلاء. ولبنان ناهض ولو بعد حين.