عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

السوق المائية المشتركة لحوض النيل

ترتفع نداءات مصريين على وسائل التواصل الاجتماعي باتخاذ إجراء عسكري ضد إثيوبيا «حفاظاً على تدفق مياه النيل».
إثيوبيا، لم تخرق القوانين الدولية حرفياً (لغياب قوانين استغلال الموارد المائية العابرة للحدود)، لكنها انتهكت قاعدة قانونية وهي حق الاستعمال التاريخي لمصر والسودان، والبلدان التي يتأثر اقتصادها بأسعار صادرات وخدمات مصرية تعتمد على مياه النيل.
يمكن شن حرب استباقية pre - emptive action تحت المادة 51 من القانون الدولي - لضرورة الأمن القومي، كوجود جماعات إرهابية على الحدود لا يقمعها البلد المجاور، لكنه لا ينطبق على حالة مصر والسودان وإثيوبيا.
الحرب أداة تكتيكية في السياسة الخارجية ضمن استراتيجية بعيدة، فماذا تنجز حرب تشنها مصر على بلد لا حدود لها معها؟
وما هو تعريف «الانتصار»؟
تحقيق «وحدة قسرية» بين البلدين؟
الحرب إذن ليست خياراً.
مفاوضات؟
إذا كان الهدف الإبطاء من ملء سد النهضة أو زيادة حصة مياه النيل، ستكون حلاً مؤقتاً في حالة نجاح المفاوضات التي غالباً ما ستفشل لقوة أوراق إثيوبيا.
تعريف water stress (نقص المياه) في إقليم جغرافي يحدده نصيب الفرد للاستهلاك الصناعي أو المنزلي بألف متر مكعب سنوياً (مليون لتر) كحد أدنى، وما دون نصف مليون لتر سنوياً يعني أزمة مياه.
الفرد المصري يستهلك منزلياً 200 لتر يومياً (73 ألف لتر سنوياً)، وإضافة المياه المستخدمة في إنتاج الأغذية والزراعة (2000 إلى 5000 لتر يومياً) تعني متوسط مليار وعشرة ملايين لتر سنوياً للفرد.
مصر تستخدم سنوياً 80 بليوناً و250 مليون متر مكعب، يأتي 70 في المائة منها من النيل (55.5 بليون متر مكعب)؛ وملياراً و300 مليون متر مكعب من الأمطار؛ و13 ملياراً و500 مليون متر مكعب من إعادة استخدام مياه الصرف.
الآبار الجوفية العميقة تساهم بمليارين و100 مليون متر مكعب؛ وآبار الدلتا الضحلة توفر سبعة مليارات و500 مليون متر مكعب؛ و350 مليون متر مكعب من تحلية مياه البحر desalination؛ ويمكن للمصريين مضاعفة الرقم عشر مرات في أقل من خمس سنوات بتكلفة اقتصادية مربحة لتوفر الطاقة الشمسية مجاناً لساعات طويلة، كما يخلق آلافاً من فرص العمل.
الـ70 في المائة من المياه التي تأتي لمصر من النيل تستغرق رحلة 6650 كلم، منها 1600 كلم في النيل الأزرق تمثل بـ20 في المائة من المياه من فيضان بحيرة تانا في هضاب الحبشة يتدفق منها 48.7 كيلومتر مكعب عند مقياس دايم (قبل التحاقه بالنيل الأبيض).
80 في المائة من مياه النيل مصدرها النيل الأبيض من البحيرات الاستوائية كفيكتوريا والبرت بكمية 84 كيلومتر مكعب (مقياس ملكال جنوب السودان).
مقياس التمنيات شمال الخرطوم (من النيلين الأبيض والأزرق) سجل 72.2 كيلومتر مكعب قبل بناء السد الإثيوبي (مجموع مياه النيلين 123.7 كيلومتر مكعب) فأين الـ60.5 كيلومتر مكعب؟
النيل الأبيض يفقد سنوياً 55 في المائة من مياهه (أي 46 ملياراً و200 مليون كيلومتر مكعب) بالتبخر في منطقة السد (المديرية الاستوائية في مملكة مصر والسودان حتى عام 1955) ومساحتها 30 ألف كيلومتر مربع، تزداد في موسم الفيضان إلى 130 ألف كلم أو خُمس مساحة جنوب السودان (21 في المائة).
مشروع قناة جونغلي الذي اقترحه السير ويليام غارستين في 1907 بدأ في 1978 لحفر 360 كلم في منطقة السد لزيادة سرعة التدفق وتقليل التبخر، وحماية 100 ألف كلم يحرم المزارعين من استغلالها، ويضيف إلى النيل ما يساوي أكثر من 90 في المائة من مياه فيضان النيل الأزرق.
العمل توقف (بعد استكمال 240 كلم) عدة مرات بسبب الحرب الأهلية في جنوب السودان، والدور هنا للدبلوماسية والاستثمارات استكمالاً لعمليات الحفر في قناتي جونغلي الأولى والثانية. وإلى جانب توفير المياه فإن المشروع الذي يجب أن يرافقه إصلاح خطوط السكك الحديد التي امتدت إلى السودان في زمن مصر الخديوية في القرن التاسع عشر، سيوفر فرص عمل وينعش اقتصاد جنوب السودان، ويربطها بالعالم الخارجي (فليس لها منافذ على البحر)، كمزايا إغراء لإنهاء الحرب في الجنوب.
لكن أطراف النزاع تغلب الآيديولوجيا السياسية على براغماتية المصالح الاقتصادية؛ ولجوئها لتنظيمات كالأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي يخلق مشاكل إضافية ويعرقل الحل.
المطلوب قرارات شجاعة وبراغماتية من الأطراف الثلاثة (مصر والسودان وإثيوبيا) بحصر الحوار بين بلدان حوض النيلين الأحد عشر (مصر، والسودانين، وإثيوبيا، ورواندا، وتنزانيا، وأوغندا، وبروندي، وإريتريا، وكينيا، والكونغو الديمقراطية).
بعد الاتفاقيات الأولى على خطوط مشروع تكوين معاهدة سوق هيدروليكي اقتصادي يتطور إلى مجالات تعاون أوسع على المدى الطويل، تتم دعوة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة كمراقبين فقط بلا تدخل.
نواة السوق الهيدروليكي المشتركة تكون بتأسيس البنك المائي («مصرف» لا تفي بالمعنى هنا) بادخار واستثمار وإنفاق وفوائد أرباح، بعملة الدولار المائي ويساوي مليون لتر مثلاً. مقر البنك المائي يكون في عاصمة الاتحاد ولتكن أحد البلدان المحايدة كبوروندي أو رواندا.
بلدان الموارد المائية كإثيوبيا وكينيا مثلاً تكون صاحبة رصيد إيداع تتقاضى عليه فوائد، لكن من تستخدمه من المياه، في توليد طاقة أو زراعة أو تخزنه وراء السدود (زيادة عن كمية الاستعمال التاريخي) يعتبر اقتراضاً من الرصيد ينقص الأرباح أو تدفع عليه فوائد. بلدان أسفل النهر كمصر والسودان تدفع فوائد ما تستخدمه فوق حصص معاهدات حق الاستعمال التاريخي. لكنها أيضاً تجني أرباحاً إذا صدرت محاصيل أو طاقة، أو خدمات تستخدم فيها المياه إلى بقية بلدان السوق (كيلوغرام الأرز مثلاً يتطلب 4 آلاف لتر حتى وصوله للمستهلك بينما يتطلب كيلوغرام من القطن 10 آلاف لتر).
من المتوقع زيادة سكان بلدان حوض النيل إلى 800 مليون في عام 2050 بحاجات مائية 180 مليار متر مكعب سنوياً (تزيد بـ33 في المائة على ما توفره مياه النيل اليوم)، بنصيب فرد 450 متراً مكعباً يومياً (1230 لتراً) أو 45 في المائة من الحد الأدنى ؛ وبلا تفكير طويل في المستقبل في تأسيس سوق النيل المائية على نموذج السوق الأوروبية المشتركة في الستينات سيكون المستقبل مظلماً لأهم أقاليم القارة السوداء.