د. خالد بن نايف الهباس
كاتب سعودي
TT

إيران والأمن الإقليمي

تستمر إيران في مناكفة المجتمع الدولي من خلال تهديد الملاحة البحرية في مضيق هرمز وبحر العرب حيث يمر نحو ربع صادرات النفط العالمي. وهذا السلوك العبثي، سواءً تم من إيران مباشرة أو من خلال وكلائها في المنطقة، لا يبدو مستغرباً على نظام سياسي اتخذ من سياسة التدخل في شؤون الدول الأخرى ودعم الإرهاب وخلق الميليشيات الطائفية وتطوير صناعة الصواريخ الباليستية وكذلك تطوير برنامج نووي مشكوك في سلميته، أمراً واقعاً، بل جعله هدفاً تم تسخير مقدرات البلد الاقتصادية له، وذلك على حساب رفاهية الشعب الإيراني الذي يعاني الأمرّين منذ عقود. الجديد في الأمر أن التعرض لناقلات النفط خلال اليومين الماضيين يتزامن مع تنصيب الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي.
في واقع الأمر تعد هذه المناكفات جزءاً من «المناورات السياسية» الإيرانية التي دائماً ما تلجأ إليها الحكومة الإيرانية كبالون اختبار لعلاقتها مع القوى الغربية، وقد حصل هذا المد والجزر في العلاقات بين الجانبين بُعيد تسلم الرئيس بايدن الرئاسة، وذلك في محاولة لتحديد سقف المفاوضات سعياً من إيران لرفع العقوبات الأميركية عنها، فيما سعت الإدارة الأميركية للعودة للاتفاق النووي كجزء من استراتيجية «الدبلوماسية أولاً» التي تنتهجها إدارة بايدن، خلافاً لسياسة «الضغوط القصوى» لإدارة الرئيس السابق ترمب. القوى الغربية عليها أن تدرك أن إيران لا يمكن الوثوق بها، وأن هدفها الحقيقي هو توسيع نفوذها في المنطقة وزعزعة استقرار دول الجوار، ما يشكّل في نهاية المطاف تهديداً للأمن الإقليمي، في منطقة غاية في الأهمية لاستقرار الاقتصاد العالمي.
كذلك يجب عدم استبعاد سعي القيادة الإيرانية لتشتيت النظر عن الاحتجاجات الداخلية وإيجاد توتر على جبهات خارجية، وهذه وسيلة متعارف عليها في مثل هذه الحالات. فالوضع الاقتصادي المتردي والاحتجاجات الأخيرة في منطقة الأهواز وغيرها من المدن تشكّل هاجساً دائماً للقيادة الإيرانية، وللحكومة الجديدة على وجه التحديد. كما يمكن القول إن الحكومة الجديدة تريد الظهور بصورة أقوى أمام القوى الغربية، وكذلك أمام القوى المحلية المناصرة لها، وهي حكومة محافظة متشددة، حتى وإن كانت الكلمة الفصل في مسائل السياسة العليا في إيران دائماً للمرشد الأعلى.
من ناحية أخرى، فإن ما تقوم به الولايات المتحدة من إعلان واضح عن رغبتها في تقليل حضورها العسكري في المنطقة يُفهم بشكل خاطئ من القيادة الإيرانية، حيث يشكّل دافعاً لطهران لارتكاب مزيد من الأعمال الاستفزازية، والاستمرار في تماديها في سياستها الإقليمية العبثية. طهران لا تفهم الأقوال لكنها تفهم الأفعال، وإذا كانت إيران تقوم بما تقوم به وهي تحت وطأة العقوبات، فماذا نتوقع منها لو تستعيد عافيتها الاقتصادية؟ ما تم بعد التوصل إلى الاتفاق النووي عام 2015 هو أن طهران تمادت أكثر في سياستها التوسعية في المنطقة، وأنفقت الكثير من الأموال التي تم الإفراج عنها لدعم وكلائها في الدول المجاورة، وأعتقد أن هذا ما سيتم حال التوصل إلى اتفاق آخر. لذلك من المهم التوصل إلى اتفاق محكم يمنع إيران من الحصول على سلاح نووي، وكذلك يعالج دورها الإقليمي المزعزع للاستقرار الإقليمي وبرنامج صواريخها الباليستية.
تظل معالجة دور إيران الإقليمي عنصراً رئيسياً في معادلة الأمن الإقليمي التي هي أكثر شمولاً بحيث ترتكز على إيجاد نظام أمني وفق قواعد عمل واضحة وتفاهمات مستدامة بين الدول ذات الصلة وتحت مظلة دولية قادرة على صيانة ذلك، وهو أمر لا يبدو في المتناول في ظل تعارض قناعات وأولويات القوى الإقليمية، خصوصاً التباين الواضح بين استراتيجية إيران التوسعية في المنطقة مقابل رغبة دول الخليج العربية في إقامة علاقة تعاون ترتكز على احترام المصالح المتبادلة وأسس حسن الجوار ومبادئ القانون الدولي. بل إن «إجراءات بناء الثقة» التي يجب أن تسبق أي حديث عن إقامة نظام أمن إقليمي لا تزال غير متوفرة في ظل ما تقوم به إيران ووكلاؤها من أعمال عدائية مستمرة تجاه الأمن البحري، وكذلك ضد السعودية من خلال الميليشيا الحوثية.
الأمر لا يبدو مجرد أزمة ثقة بين إيران وجيرانها، ولكنه جزء من استراتيجية توسعية، يؤطرها الدستور وتشرعنها العقيدة الدينية في إيران. يضاف إلى ذلك أن طهران تسعى لاستغلال الفراغ الاستراتيجي الذي لحق بالنظام الإقليمي العربي خلال العقدين الماضيين، وترى أن بوسعها فعل ذلك في ظل عدم رغبة واشنطن، وهي القوة الدولية المعنية بشكل أكبر بأمن المنطقة، التصدي لذلك بحزم. عدم محاسبة إيران على حماقاتها والاكتفاء بالتصريحات السياسية، لا يحقق السلام والأمن في المنطقة. وكلما تعاظمت قوة إيران زادت قدرتها على تهديد الأمن الإقليمي الذي يعد ركيزة أساسية للسلم والأمن الدوليين. ولا يمكن التفريق في ذلك بين إيران وميليشياتها التي تشكل أذرعها الوظيفية في المنطقة. ويظل توازن القوى المبني على تحالف محكم لتحجيم مصادر القوة لدى إيران وفي ظل «الدبلوماسية الوقائية» أمراً غاية في الأهمية لدرء خطرها.
كل ما يُطرح الآن من القوى الدولية الغربية وغير الغربية مثل روسيا والصين من سيناريوهات حول أمن المنطقة لن ينجح في تحقيق الاستقرار الإقليمي ما لم تُعالَج مسبباته الحقيقية، أياً كانت الأجندة الدولية وتوازنات القوة بشأنها؛ الحوار والمفاوضات آلية فاعلة للتغلب على الاختناقات التي تقع بين الدول، لكن عندما تكون هناك رغبة صادقة لتحقيق ذلك من الدول الأطراف، وهذا لا ينطبق على إيران، وفقاً لسلوكها خلال الأعوام الأربعين التي تلت ثورة 1979 والشواهد على ذلك كثيرة.