أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

إيران وحكم الملالي المثير للانقسام

أمام «جمهور» يضم عدداً من المثقفين المناهضين للشاه بعد أسابيع قليلة من الاستيلاء على السلطة، قال آية الله الخميني إن النظام الذي خطط لإقراره في إيران ستحكمه قاعدة إرشادية واحدة: «فعل عكس كل ما فعله الشاه الملعون». وعلى الرغم من ذلك، نجد أنه على مدار العقود الأربعة التالية، حرص هو ومن خلفوه على البقاء مخلصين لهذا العهد وبذلوا جهداً مضاعفاً لتنفيذه.
من جهته، لطالما رغب الشاه على إبقاء إيران بمنأى عن الحروب والصراعات العسكرية، ونجح في ذلك بالفعل طوال ما يزيد على ثلاثة عقود، وفي بعض الأحيان كان إنجاز هذا الأمر يتطلب اتخاذ قرارات مؤلمة. في المقابل، نجد أن الخميني ومن جاءوا بعده دفعوا بإيران في حرب استمرت 8 سنوات مع العراق، بجانب سلسلة من التدخلات العسكرية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وأفغانستان.
وحرص الشاه على تصوير إيران باعتبار أنها حصن في مواجهة الإرهاب واستخدام العنف كأداة سياسية لدرجة أنه حتى لم يسمح لمنظمة التحرير الفلسطينية بفتح مكتب لها في طهران. على الجانب الآخر، نجد أن النظام الخميني وفر ملاذاً آمناً لشتى أنواع التنظيمات الإرهابية من تايلند والفلبين إلى كولومبيا وبيرو، مروراً بالشرق الأوسط وأوروبا. كما تولى تمويل خلق مجموعة من الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية تسعى لإقامة «دولة سوداء» في المسيسيبي. جدير بالذكر أن «حزب الله»، الجماعة المظلة لمسلحين تسيطر عليهم إيران، انتهى بها الحال إلى امتلاك أكثر عن 17 فرعاً لها على مستوى الشرق الأوسط الكبير.
من جهته، سعى الشاه إلى بناء علاقات صداقة أو على الأقل ودية مع الدول المجاورة لإيران. وكان نتيجة ذلك أنه بحلول لحظة رحيله عن البلاد، كانت إيران الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك حدوداً جرى ترسيمها بالكامل مع جميع الدول المجاورة، وبالتالي لا تحمل على كاهلها عبء الخلافات الحدودية التي تعاني منها الكثير من العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط.
بوجه عام، سعى الشاه لتنفيذ خطة طموحة للتحول الصناعي تقوم على افتراض مفاده أن إيران التي تعاني شح الموارد المائية، ينبغي أن تركز جهودها الزراعية على المحاصيل المرتفعة القيمة التي تمكنها من المنافسة في أسواق دولية، في الوقت الذي تستورد فيه محاصيل الاستهلاك العام مثل القمح والأرز من دول تتمتع بميزات نسبية عنها.
على النقيض، ادعى الخميني أن الشاه كان يرغب في أن يعتمد المسلمون على «الكفار» حتى في الحصول على خبزهم اليومي وتهميش قطاع الزراعة الذي يضرب فيه الإسلام بجذور عميقة. وعليه، عمد الخميني ومن خلفوه إلى تطبيق سياسة رديئة تقوم على بناء سدود صغيرة على الأنهار والبحيرات من أجل إنتاج محاصيل منخفضة السعر. وتسبب ذلك في أضرار فادحة للتوازن البيئي داخل البلاد، علاوة على الاختفاء الفعلي لما يزيد على 200 من الأنهار والبحيرات والمستنقعات، إضافة إلى أضخم بحيرات البلاد، أروميه، وعدد من الأنهار الكبيرة الأخرى مثل زاينده، وإلى حد ما كارون.
إضافة لذلك، كانت مسألة «دفع المرأة إلى الحياة العامة» واحدة على رأس أولويات الشاه. وكانت النساء الإيرانيات من بين أولى نساء «العالم المسلم» اللائي حصلن على حق التصويت ونيل مناصب عامة رفيعة مثل عضوية البرلمان ومناصب وزارية وسفيرات، بل وحتى داخل الجيش والشرطة والقوات الجوية.
عام 1979، عندما استولى الملالي على السلطة، كان نصيب النساء من أعلى 2000 وظيفة عامة بالبلاد حوالي 17 في المائة. ومنذ ذلك الحين، تراجعت هذه النسبة في ظل الحكم الخميني إلى 3 في المائة فقط بحلول عام 2021.
ومع هذا، يتعلق الاختلاف الأكبر وربما الأهم بين سياسات إيران في عهد الشاه وخلال الحكم الخميني بقضية محورية هي الهوية الوطنية. عام 1979، ربما كانت إيران الدولة الوحيدة بالمنطقة التي تتمتع بإجماع واسع حول طبيعة هويتها كدولة قومية.
كانت هذه الهوية قد تشكلت على مدار ما يقرب من خمسة قرون، واكتملت أركانها بقيام الثورة الدستورية عام 1906 وتشكيل أولى مؤسسات الدولة على النسق الغربي والإصلاحات التي نفذها رضا شاه بهلوي والتقدم الاقتصادي والاجتماعي في عهد نجله محمد رضا شاه.
وحملت هذه الجهود شعار «الوحدة في التنوع»، وهو شعار اعتمد في جزء منه على قراءة نصف تاريخية ونصف أسطورية لتاريخ إيران الطويل ومصممة للوصول بالاختلافات الضيقة داخل المجتمع إلى أدنى حد ممكن وتعزيز الصورة النمطية للرجل أو المرأة الإيرانية تحت مسمى الوطنية و«ميهان»، وهي كلمة تصعب ترجمتها لكنها تشير إلى الانتماء لوطن واحد.
على النقيض، نجد أن الخميني أنكر هذه الفكرة من الأساس، وشدد على أنه لا وجود لأمة إيرانية وعلى هوية «جمهوريته الإسلامية»، مشيراً إلى أن الإيرانيين جزء من «أمة» إسلامية عالمية.
وبدأ هذا الموقف في إحداث فرقة في صفوف الإيرانيين ما بين المسلمين وغير المسلمين، ثم زاد الخميني هذا التقسيم إلى شيعة وسنة. وبعد ذلك، قسم الشيعة إلى اثني عشرية وآخرين. وبعدها، جاء الدور على الاثني عشرية ليقسموا أنفسهم بين «أصوليين» و«إخباريين». وبعد هذا، جرى تقسيم «الأصوليين»، الذين من المفترض أنهم يشكلون لب قاعدة النظام، إلى «ولائيين»، بمعنى من يؤمنون بمبدأ «ولاية الفقيه» أو حكم رجال الدين، و«التقليديين»، الذين لم يقروا النظام الجديد.
وفي الوقت الذي حاول فيه الشاه تشكيل هوية واحدة توحد صفوف الإيرانيين، صاغ الخميني استراتيجيته على أساس تقسيم الإيرانيين كي يعزز الادعاء أن مبدأ «ولاية الفقيه» السبيل الوحيد لإبقاء إيران موحدة. وحاول عدد من الفلاسفة الخمينيين، مثل مصباح يزدي وعبد الكريم سوروش وحسن عباسي ورحيل برازغادي دعم هذا الادعاء عبر محاولات للتلاعب الآيديولوجي.
وتركت استراتيجية الخميني الغالبية الكاسحة من الإيرانيين يتساءلون حول كيفية تعريفهم لأنفسهم في إطار نظام يحرمهم من هويتهم المشتركة. وشجع هذا الأمر بدوره على الانقسامات وظهور ردود فعل متناقضة. اليوم، ينظر الكثير من الإيرانيين إلى المذهب الشيعي، باعتباره عدواً لهم. ويسعى بعضهم إلى إحياء هويات إقليمية أو لغوية أو عرقية ميتة أو خاملة منذ أمد طويل. وتسبب النهج الخميني في دفع كبار السن في مواجهة الشباب، في وقت يلقي من ولدوا بعد الثورة، والذين يشكلون أكثر من نصف السكان، اللوم على كبار السن عن الشقاء الذي تعانيه البلاد اليوم.
أيضاً، تسببت استراتيجية الخميني في تقسيم الإيرانيين من بين من هم داخل الوطن ومن هم في الشتات، والذين يشكلون قرابة 10 في المائة من مجمل السكان. وتجلى هذا الأمر، الأسبوع الماضي، أثناء دورة طوكيو للألعاب الأوليمبية عندما نجحت رياضية إيرانية تشارك في المنافسات كلاجئة في هزيمة إيرانية أخرى شاركت تحت علم «الجمهورية الإسلامية». وعندما تعانقت الرياضيتان بحرارة بعد انتهاء المباراة، شعر الكثير من الإيرانيين أن هويتهم الإيرانية التي تشكلت على امتداد قرون ما تزال حية وقوية.
بجانب ذلك، أثار النهج الخميني الكراهية بين الرجال والنساء، علاوة على سعي هذا النهج أيضاً إلى تأجيج مزيد من الانقسامات عبر وصف المظاهرات المشتعلة في أكثر من 100 مدينة عبر إيران بأنها من صنع «عناصر انفصالية»، فقط من أجل تبرير قتل المدنيين العزل في الشوارع.
ومع ذلك، فإنه في هذه الحالة أيضاً، ربما يقف النظام الخميني على الجانب الخطأ من التاريخ، خاصةً أن هذه المظاهرات المشتعلة تسهم فيما يبدو في إحياء شعور الوحدة الوطنية وبهوية إيرانية تشكلت على امتداد قرون، الأمر الذي يدفع بدوره الآيديولوجيا الخمينية إلى خانة العدو المشترك للأمة الإيرانية. وما يزال القتال مشتعلاً.