إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

الثمن المقبول لاحتواء انهيار لبنان

ما الذي تغيّر خلال بضعة أشهر حتى غدا ممكناً تذليل العقبات التي تمنع تشكيل الحكومة اللبنانية؟ هل يُعقل أن صحوة ضمير ليّنت القلوب القاسية، فتجاوبت مع آلام الجياع والمرضى المحرومين من الدواء؟ أم ترى الانهيار الاقتصادي الفظيع بدأ يمسّ جمهور القوى المتسببة فيه؟
قناعتي الشخصية أن الجواب الحقيقي في مكان آخر تماماً.
في لبنان، بُعدان اثنان متلازمان للأزمة العميقة المزمنة التي تدفع كلَّ تنافس بين مكوّناته إلى خلاف، ثم إلى صراع، وأخيراً نحو هاوية «حروب» الإلغاء.
هذا جزء لا يتجزأ من الهوية في هذه المنطقة الصغيرة من المشرق العربي... منذ كانت «مدناً - دويلات»، مروراً بتحوّلها إلى «كونتيات»، فإقطاعات، فـ«حالة خاصة» من الإدارة الذاتية تحت الإشراف الدولي – كحال «المتصرفية»، ووصولاً إلى الصفقة المرسومة حدودها ضمن أطر اتفاقيات دولية أكبر بكثير من عشائرية الصغار، وإن كانت هذه الاتفاقيات قد استغلتها واستثمرت فيها وتاجرت بها... ولا تزال.
الحقيقة، أن العشائريين الصغار لم يستيقظوا فجأة من سُبات المناكفة والكيد والتعصب المريض والحقد الوقح. كذلك، لم تطرأ تغيّرات جوهرية على صعيد المفاضلة بين أشخاص توكل إليهم مهمة تشكيل حكومة ستكون مجرد واجهة لـ«أمر واقع» ترغب القوى الإقليمية والدولية الكبرى في التعايش معه وإدارة طموحه. ولقد أثبتت التجارب العملية أن غاية القوى الدولية «المهتمة بلبنان» منصبّة على ترتيب الظروف المواتية لبناء «تفاهمات» تتجاوز حدود كيان هشّ... باتت تكلفة الإبقاء عليه أعلى من المصلحة في بقائه. إذ ما هي الحاجة إلى «وسيط» صغير عندما تتكامل التفاهمات بين الكبار؟ وأي دور يُمكن أن يُوكل إلى وطن تهجره كفاءاته، وتنهار مؤسساته، وتتراكم ديونه، وتنحسر الثقافة والولاءات والمصالح المشتركة بين الذين بقوا على أرضه؟
هذه التساؤلات وغيرها، كان يطرحها كثيرون من اللبنانيين طوال الأشهر الأخيرة في ظل تعقّد أزمة تشكيل الحكومة. ولكن، فجأة، بعدما أعلن رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري عزوفه عن محاولة التشكيل، تبدّل المشهد، وانطلقت «أقبية» السياسة و«مطابخ» الإعلام الأمني و«التوجيه المشبوه» في حملات التسريب والتضليل والترشيح والإيحاء.
فجأة، فتح «بازار» أسماء «مرشحة» لتولي رئاسة الحكومة، وكأن المشكلة في قلة المؤهلين لا سلطات الرئيس، أو حقه في اختيار فريقه، أو هامش الحرية المتاح له كي يجوز الحكم على أدائه... وفق مبدأ الثواب والعقاب.
صارت الغاية تشجيع كل مَن هب ودب من «المسترئسين» على طرح نفسه، في محاولة لـ«استهلاك» أي مرشح لشغل المنصب، والاستخفاف بمرجعيته المذهبية والازدراء بصلاحياته. وهذا، كي لا نقول بالدستور، الذي يتعامل مع رئيس الحكومة كـ«رئيس حكومة» تمثل مجتمعة (بمسيحييها ومسلميها) السلطة التنفيذية في البلاد.
بعدها، بدأت الألاعيب التكتيكية بين عدد من الأفرقاء للتموضع والتأهب لكل الاحتمالات التفصيلية عندما يرسو التكليف على شخصية سنّية.
ما يُسمى «الثنائي الشيعي» الذي أتاحت له حاجته إلى التضامن المذهبي للمحافظة على حد أدنى من أشكال وحدة الصف، اختار التعامل الهادئ. ذلك أن شقه المعتدل صاحب المنظور العربي لهوية الشيعة ودورهم، أي حركة «أمل» برئاسة الرئيس نبيه برّي، كان دائماً حريصاً على منع الشرخ الكبير مع الشريك السنّي ومع هوية لبنان ومصالحه العربية. ولهذا السبب كانت «أمل» ولا تزال قليلة الثقة بـ«التيار الوطني الحر» (التيار العوني)، أبرز رموز الغلو المسيحي. وبالفعل، حرص برّي دائماً على التفاهم مع الممثلين الأقوى للمكوّنين السنّي والدرزي.
ثم إن حتى «حزب الله»، صاحب الولاء الإيراني المطلق، ورغم انجرافه بمخططات طهران الأوسع لمستقبل المنطقة و«حلف الأقليات»، لم يجد نفسه مضطراً لمجاراة العونيين في حربهم الضروس على القيادتين الفعليتين السنّية والدرزية، والوقوف في الصف الأمامي لتلك الحرب. ولهذا، السبب تحاشى الحزب حتى الآن استفزاز الشارع السنّي، مجاناً، بترشيح أحد أتباعه من السنة لرئاسة الحكومة.
مع فقدان الغطاء الشيعي، تقلصت خيارات العونيين ورئيسهم - الذي هو رئيس الجمهورية - في مواصلة المواجهة والتصعيد، وانتقلت اللعبة إلى «سيناريو» آخر مزدوج المضمون يقوم على عنصرين: المظلومية والتعطيل. وبمجرّد ارتفاع أسهم ترشيح الرئيس نجيب ميقاتي للعودة إلى رئاسة الحكومة، أعلن العونيون أنهم لن يدعموا ميقاتي «مرشح أميركا» (!)، بل تأييد الدكتور نواف سلام «العروبي»، غير المرشح أصلاً... والرجل الذي يعرف العونيون جيداً أن «حزب الله» وضع عليه «فيتو» في الماضي.
حقيقة الأمر أن فريق رئيس الجمهورية وتياره لا يريدان ميقاتي، لأنه: أولاً، ربط موافقته على قبول التكليف بشروط تحول تعريضه إلى ما تعرّض له الحريري من ضغوط وابتزاز. وثانياً، لأنه من «تجمع» رؤساء الحكومات السابقين (مع الحريري وتمام سلام وفؤاد السنيورة)، الذي تضامن مع الحريري، ضد تهجمات العونيين وإصرارهم على نسف «اتفاق الطائف».
أكثر من هذا، يريد العونيون العودة إلى ادعاء «المظلومية» وشدّ العصب المسيحي، في مزايدة مكشوفة على حزب «القوات اللبنانية» الداعي لانتخابات مبكرة. والحال، أن التيار العوني، الذي لولا تحالفه مع «حزب الله» لما وصل مؤسسه لرئاسة الجمهورية، يريد القول لقاعدته إنه يتعرّض للاستهداف من تحالف مسلم (سني - شيعي - درزي) عريض غايته إضعاف مقام الرئاسة... وبالتالي، المسيحيين.
هذه محاولة بسيطة لفهم حسابات اللاعبين المحليين، لكنها لا توضح إلا جزءاً من الصورة. إذ إن العنصر الأهم الذي عجّل في تغيير المشهد، وأعاد تشغيل محرّك تشكيل الحكومة هو تفاهم دولي أبرز أطرافه الولايات المتحدة وفرنسا.
واشنطن وباريس المنهمكتان بتفاصيل الملف الإقليمي، وفق حسابات أكبر وأشمل، تضم حساباتهما:
أولاً، سقف الدور «المقبول» لإيران المتمددة داخل المشرق العربي، وحجم الهامش المتروك لها في عرض عضلاتها عبر حدوده وممراته المائية.
وثانياً، مصلحة إسرائيل المركزية، التي تتقاطع في العديد من المحطات مع مصالح إيران... وهذا أمر ما عاد سراً خفياً على أي مراقب حصيف.
وثالثاً، دور تركيا بحلتها «الإردوغانية» ومطامحها الأرضية والبحرية، بجانب مصالحها الثقافية والاقتصادية والدينية.
وهكذا، فإن الفوضى اللبنانية، إذا ما استمرت على ما هي عليه الآن، قد تتحوّل إلى شبه دمّل مسموم يهدد تفجّره بتفشي سمومه في محيطه. وعودة إلى موضوع «الكلفة»، صارت كلفة انفجار لبنان وانهياره باهظة لدرجة أعلى بكثير من كلفة إدارة أزمته واحتوائها بالتي هي أحسن.