سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الثقب يتوسّع والانحباس يضيق

أنا من القوم الذين يأنسون إلى حكايات الجدّات في تفسير الأشياء لكي لا يتكلفوا شقاء البحث عن أصول الحقائق وجذور الأشياء. فماذا سوف يتغيّر عندي إن كان في الكون 270 مليار مجرّة ضوئية أو 271 ملياراً. فقد كانت هذه المجرّات تضيء ليالينا في القرى، ونحاول أن نحصي منها ما نستطيع، وعندما نضيع بينها وتكلّ أصابعنا، نعود إلى العد من جديد، إلى أن ننهك ونسلّم المهمة إلى النوم.
لم أبذل أي جهد في تأمل «الثقب الأسود» و«الانحباس الحراري»، ولم آخذ المسألة جدّياً. لكن المسألة لم تعد في المجرات وحدها. فنحن في شهر يوليو (تموز) والأمطار تُغرق الرياض وتطوف في الصحراء، وتهدم أسوار نهر السين في باريس، وتلهو في ألمانيا وبلجيكا برسم لوحات من مشاهد يوم القيامة، إذ تتحول الطرق إلى أنهار، وتحمل البيوت مثل علب الكبريت، وتنقل الجثث مثل شركات الدفن، وتسد طرق الإنقاذ على المرتعدين، وتلتهم مدارس الأطفال، وتقتل ربات البيوت في المطابخ.
كانت هناك طوفانات من قبل. وقد تدبّر سيدنا نوح الأمر في أحدها ليضمن استمرار الحياة بعد هدوء الطوفان، لكن الفيضانات تحدث في فصولها، بما فيها النيل المعاكس. أما الآن فنحن في عز الصيف، في هذا الجانب من الكرة، والناس في إجازاته، وعلى شواطئه، وفجأة يقتحم البيوت مثل «تسونامي» وتصرخ أقوى سيدة سياسية في هذا العالم: «الكارثة أكبر من أي تصوّر».
هل رأيت مشهد البيوت الخشبية تدفعها المياه الدافقة، ثم تمعسها، ثم تلويها، ثم تخفيها، ثم تتحول الساحات إلى مدافن مائية؟ لأن قبل جنون الانحباس الحراري لم تكن تهب هذه الزوابع فجأة في غير مواعيدها، وبالتالي، كانت البيوت تُبنى من الخشب البسيط ومن دون إسمنت. المستر ترمب وأنا، لم نصدق كم تغيّر المناخ على البشر. لذلك هو خرج من الاتفاقية، كما خرج من جميع الاتفاقات الأخرى، وأنا أظهرت عدم الاكتراث والجهل. وكلاهما واحد.
وصفت سيدة ألمانيا الطوفان الطبيعي بأنه يفوق التصوّر. وتتحدث الدولة اللبنانية عن مقتل 210 أشخاص في ميناء بيروت على أنه «انفجار المرفأ» أو «انفجار 4 آب». وقالت السيدة أنجيلا ميركل إن حكومتها ستصرف المليارات لإعادة بناء المناطق المنكوبة، وجميع الذين هبّوا لمساعدة ضحايا مرفأ بيروت يرفضون تسليم أي مساعدة إلى أي هيئة رسمية لبنانية، خوف سرقتها، مثل كل شيء آخر.
معاذ الله، إنني أقارن بين ألمانيا ولبنان. بين دولة تحكمها سيدة منذ 16 سنة متواصلة على أفضل نحو ممكن، وبين بلد يبحث عن حكومة منذ تسعة أشهر. وأمضى عامين ونصفاً من دون رئيس جمهورية. ولا خجل ولا رحمة ولا اكتراث!...