إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

ديمقراطية سكّر زيادة

بصراحة، هذا أمر لا يُحتمل. إنه صعب التصديق بل مثير للريبة. لا يمكن لغيرهم أن يهضموه ولا أن يرتاحوا له. لقد بلغت ديمقراطيتهم حد اللهو والاستخفاف، كأنهم يريدون بلبلة العقول وبث الفتنة في النفوس. عقول مَن ونفوس مَن؟ عقولنا نحن مواطني العالم الثالث الذين ترعرعنا في أحضان حكومات ترفع شعار غوار الطوشة: «كل مين إيدو إلو»، أي لكل امرئ من دهره ما تعوّد أن تصل إليه يده. يد لا ترى غضاضة في أن تمتد إلى المال العام. ثم تأتي دولة مثل فرنسا لتتعمد إثارة الشجون وتقليب المواجع. إنها تتمسك بأهداب الشفافية من أطرافها، هدباً بعد هدب، وتمشطها بالماسكارا، من دون أن تحسب لمشاعر الآخرين حساباً.
قبل يومين، وقف وزير العدل الفرنسي أمام القضاة لاستجوابه في شبهة تضارب مصالح. وهم ليسوا أياً كان بل قضاة محكمة عدالة الدولة، السلطة الوحيدة في الجمهورية التي تملك صلاحية استدعاء وزير العدل للتحقيق معه. إن منصب إريك دوبون موريتي كفيل بأن يضعه فوق كل القضاة. لكن ليس فوق القانون. كما أنه ليس وزير الرياضة ولا قدامى المحاربين بل ثالث رجل في الدولة وعمود من أعمدة العدالة. وهو المؤتمن على أختام الجمهورية.
قبل دخوله الوزارة، كان دوبون موريتي من نجوم الصف الأول من المحامين. يترافع في القضايا الكبرى والمعقدة. يعرف كيف يغوص في كتب القوانين ليصطاد البند الذي يخدم موكله. هذا من حيث المضمون، أما من حيث الشكل فإن السيد الوزير يصلح لأن يكون مصارعاً أو لاعب رغبي. رجل مديد يقف بالجبة السوداء في القاعة فيحجب كل ما وراءه. وهو، بحكم المهنة، خطيب مفوه وضيف مطلوب في برامج التلفزيون، وله مشاركات سينمائية. يركز نظراته ويعقد ما بين حاجبيه فيصبح شبيهاً بأورسون ويلز في فيلم «المواطن كين».
قبل الاستجواب، أرسل قضاة المحكمة موظفيهم لمداهمة مبنى وزارة العدل في أرقى ساحات باريس. كان ذلك ضمن مقتضيات التحقيق. هل تدخل الوزير لتسيير قضايا كان يترافع فيها وهو محامٍ؟ ذهب رجال الشرطة والمحققون بالعشرات إلى مقر الوزارة ونبشوا الجوارير والملفات طوال خمس عشرة ساعة، أي ضعف ساعات الدوام الرسمي. أرسلوا في استدعاء خبير يكسر الأقفال ويفتح الخزنة الموجودة في مكتب الوزير.
كان من الطبيعي أن تحتل القضية صدارة نشرات الأخبار. وكالعادة، كان هناك من تشفى في الوزير وفرك اليدين حبوراً. فللرجل خصوم وحسّاد. وفي المقابل كان هناك من استهجن التحقيق مع وزير العدل ورأى أنه موجه، في الأساس، نحو الرئيس ماكرون، فهو من جاء بدوبون موريتي وزيراً للعدل خلافاً لرغبات عتاة القضاة. كان الرأي أنه شخصية انفعالية. والانفعال يُخسر الميزان.
سار الوزير إلى جلسة المحكمة مرتاحاً كمن يذهب في نزهة. إن قاعات المحاكم هي ميدانه وبيته الثاني. ابتسم للكاميرات وللصحافيين الذين تجمهروا عند الباب وقال: «ليس هناك أحد فوق القانون وليس هناك أحد تحت القانون». وطبعاً فإن دوبون موريتي لن يحتاج محامياً، والدفاع حقه المقدس. وبالمقابل فإن من حقي أن أتفرج مثل الطرشاء في الزفة على قضية فرنسية تبلغ حدود الاستعراض. إن ديمقراطيتهم سكّر زيادة. ونحن تعودنا على عدالة بطعم العلقم. ففي البلاد التي تعرفون يرى كل من هب ودب من النواب والوزراء ورؤساء الأحزاب نفسه فوق القانون. وليس تحت القانون سوى الشعب.