سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

إيطالي بلا غناء

تنتشر عبر السنين بين الأمم، صفات وسمات وكنايات من تلقاء نفسها. إذا قلت سباغيتي قلت إيطاليا، وإذا قلت فرنسا قلت العطر، وإذا قلت انجلترا قلت شكسبير. لكن ما أفظع القاعدة إذا دخلت في الشذوذ: إيطاليا تصبح عرياً في الشوارع، وانجلترا تصبح جنوناً غير بشري في البيكاديللي.
في فوزها على انجلترا في نهائي أوروبا، تغولت الدول المتحضرة مرة واحدة. غضباً أو فرحاً. لم تعد إيطاليا بلاد الفنون والرسوم والموسيقى والأناقة. طافت فجأة في الشوارع تترجم متعة الانتصار إلى انتقام نفسي من كل الهزائم، بما فيها الكورونا التي دمّرت البلاد وهزمتها قبل أن تتراجع. وبدورهم قبض «الهوليغانز» البريطانيون على معجب إيطالي ومثلوا به في مشهد وحشي يذكّر بساعات القذافي الأخيرة. تتساوى عند الجماهير مشاعر الخسارة والانتقام مع مشاعر الفوز والربح. ويعبر الفريقان بطريقة واحدة عن مشاعر متناقضة تماماً. ويفرغ كلاهما أسوأ ما لديه ظاناً أن هذا أفضل ما عنده.
صحيح أن خيبة أمل الانجليز لا توصف بعد 54 عاماً من الانتظار. لكن ما هذه الطريقة الوحشية في التعبير عن الحزن والأسى؟ المثال الأشهر في حروب الكرة كان النزاع الدموي بين السلفادور وهندوراس العام 1969. خاضت الدولتان حرباً ميدانية وسياسية استمرت حتى 1980 انطلاقاً من خلاف حول نتائج مباراة كروية. أما الحقد التاريخي بينهما فلا يزال قائماً.
صنع رزيارد كابوشنسكي من هذا الحدث الذي غطاه بنفسه، تحفة أخرى، من تحفه الصحافية التي تحوّلت من حدث عابر إلى رائعة كلاسيكية. وتتعرض الصورة العامة عن الأمم والشعوب إلى انفجارات كالتي تعتري نظام الطبيعة. وتختفي صورة الإيطالي المغني اللامبالي لتظهر صورته القبيحة في مباراة كروية. ولا تعود صورة الانجليزي، صورة الرجل الذي وضع «الماغنا كارتا» والمساواة وحقوق الإنسان، بل تظهر صورته نافرة كرجل لا يقبل المساواة ولا حق الفوز لسواه، حتى في المباريات الرياضية.
في داخل البشر وحش يدعو دائماً إلى القتل. نمجد الفروسية وهي تعني القتل. حتى الكسندر بوشكين، أعظم شعراء روسيا، دعا غريمه إلى مبارزة وقتل فيها، وفي رائعة إيفان تورغينيف «الآباء والأبناء» يدرب متبارزان أحدهما الآخر على وسائل الانتصار خطوة خطوة، وعندما لا يعثران على «حكم» بالمسدسات يقرران المضي فيها من دونه.
ذاع في الستينات عنوان فيلم سينمائي عن «الأميركي البشع». ثم أدرك العالم أن في كل شعب رجلاً بشعاً. إنه الإنسان في طبعته الأولى، ولا يضبطه إلاَّ القانون.