فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

في ذروة الصراع... سؤال حق التصنيف!

مع موجة النقد الضارية التي وجّهت لحركات الإسلام السياسي بفروعها وأذرعها هذه الأيام، بدت سوءات نظرية وثقافية، صاحبت تلك الحملة، من بين ذلك ما يعرفه البعض بضرورة درء الفتنة وعدم ترسيخ «التصنيفات» في المجتمع الواحد، والحق أن هذه المقولة يمكن اعتبارها الأكثر تداولاً والأجدر بتخصيص مراجعةٍ نقدية لها، وآية ذلك أن لها رواجها، ليس بين الطيبين من المعلقين والمغردين، بل تجد رواجها بين بعض الأكاديميين والمثقفين.. علماً أن التصنيف جزء من بناء التراث، فإحالة الشخص إلى مقولاته لم يكن عيباً ولا منقصة، فالأئمة كتبوا في الملل والنحل (الشهرستاني، ابن حزم) وآخرون، وثمة فرع معرفي واسع أدهش حتى المستشرقين وعملوا عليه، وهو علم «الجرح والتعديل»، بالإضافة إلى ربط سير الشخصيات بانتمائها الفكري وبخاصةٍ في الأسماء والصفات. ولا يعزب عن القارئ المشرط الذهبي للإمام الذهبي في كتابه الكبير «سير أعلام النبلاء»، فالتراث مليء بالتصنيف العلمي والهدف منه تمييز الأفكار وتصنيف الأشخاص تبعاً للأفكار التي يعتنقونها.
إن التصنيف للأشخاص بناءً على أفكارهم أبعد ما يكون عن النبز الشخصي أو الهجوم الفكري، بل قصارى ما يقوم به الباحث عزو كل شخصٍ إلى فكره، يصح ذلك حتى على التيارات الأخرى خارج نطاق السجال الإسلامي فيمكن وصف المتبني للأفكار الليبرالية بالليبرالي، والمنسجم مع النظرية العلمانية بالعلماني، ولا أرى بهذا أي جنوحٍ بشرط ألا يعتبر المصنف أن هذه التسميات يترتب عليها نفي أو تكفير كما يفعل أنصار «الإخوان» و«داعش» و«القاعدة» و«الحوثي» و«حزب الله» و«بوكوحرام».
والتصنيف جزء من الحديث المعرفي، عرفنا أن شلنج وهيغل وكانط مثاليون من أفكارهم، وعرفنا أن هوسرل وهيدغر ظاهراتيان من أطروحاتهما، هذه التصنيفات مهمة للباحث والمطالع، العلم أساسه التصنيف، ولذلك ليس صحيحاً أن عدم التصنيف هو المدخل لشرعة التعايش بين المختلفين، بل الأصوب أن نقوم بالنقد المستمر بين بعضنا وأن يختلف المختلفون على الحقيقة فهذه هي سمة المجتمعات الحية.
والتصنيف هو الوسيلة الأولى لضبط مستوى الاختلاف والاتفاق، والجهل بالتصنيف هو جهل بالذات، بدليل أن الذين استفزهم نقد الإسلام السياسي وبخاصةٍ تنظيم وتيار «السرورية» هم سروريون من دون أن يعلموا. بعض هؤلاء من النكرات و«المعاتيه» يغرد بأنه معتدل بين طرفين ويدثر بتغريدات ضعيفة يدعي أنه يدافع بها عن الوطن ويعتبر التصنيف جزءاً من الضلال النفسي وأنه لم ينتقل من تيارٍ لآخر، وهذا علاوة على جهله الفاضح وفقدانه لأدنى درجات الخبرة والتجربة، ولا يفهم أن الوسطية مسألة ذهنية بالأساس، مردها إلى تصوره هو عن الطرفين، فابن لادن والظواهري والزرقاوي يطرحون أنفسهم كدعاة وسطية بناء على تصورهم الذهني للطرفين، فالوسط منطقة يقررها ذهنك بناء على تصورك لموقعك من الطرفين المتصارعين.
في عام 1993 ومع احتدام المعارك داخل الحركة الإسلامية فيما بينها، وبخاصةٍ بين «السرورية» و«الجامية»، أصدر الراحل الشيخ بكر أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء كتابه «تصنيف الناس بين الظن واليقين»، وفي المقدمة بعد أن يقرر وجوب الرد على «أهل الأهواء» يحذر من التصنيف ويضرب أمثلة فلا يقال فلان «خارجي، معتزلي، أشعري، طُرقي، إخواني، تبليغي، مقلد متعصب، متطرف، متزمت، رجعي، أصولي، وفي السلوك مداهن، مراءٍ، من علماء السلطان، من علماء الوضوء والغسل، ومن طرفٍ لاديني، ماسوني، علماني، شيوعي، اشتراكي، بعثي، عميل» (ص 8). ولا يختلف أحد مع رأي الشيخ بضرورة عدم نسبة شخصٍ إلى فكرةٍ لم يقلها، وهذا خصص له فصلاً من الكتاب، وكان ظرف الكتاب يتعلق بموجةٍ هوجم بها بعض المشايخ من الطرفين «السروري» و«الجامي» بأوصافٍ مقذعة.
ومما يورده الشيخ بكر في الكتاب قوله: «قد ترى الرجلَ العظيم، يُشار إليه بالعلم والدين، وقد ينضاف إلى ذلك نِزاله في ساحات الجهاد، وشهود سنابك الجياد، وبارقة السيوف، ويكون له بجانب ذلك هنات وهنات في توحيد العبادة، أو توحيد الأسماء والصفات، ومع هذا ترى نظراءه من أهل العلم والإيمان - ممن سَلِم من هذه الهنات - يشهدون بفضله، ويُقِرّون بعلمه، ويدينون لفقهه، وعلوّ كعبه، فيعتمدون كتبه وأقواله، ولا يصرفهم هذا عن هذا، (وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)». (ص 93).
والكتاب كان حدثاً في حينه، لأن الشيخ ارتبط تلمذةً وزمالةً برموزٍ من كلا التيارين المتصارعين، ولذلك راعه هذا الصراع الكبير، لقد كانت التسجيلات حتى وقتٍ قريبٍ في الرياض وغيرها موزعة بين ما يعرف بالجامية أو «سلفية الطاعة»، وبين «السرورية» الفرع «الإخواني» المزاوج بين «الإخوانية» حركياً والسلفية عقيدةً واتباعاً، والحق أن الجامية دعمتهم الدولة رداً على نفوذ وتغول السروريين في المنابر والمساجد، فبعد أن تم سجن رموز الصحوة عام 1994 لم يبدُ إلا صوت الجامية، ومكنوا من التلفزيون الرسمي، وفرشت لهم الصحف، ولم يبقَ للصحوة إلا منابر قليلة كانوا فيها مركزين على «العمل التربوي» و«بناء الذات».
استعدتُ كتاب الشيخ بكر لأنه الشاهد الأبرز على الصراع بين التيارات والحكم الشرعي للتصنيف، مع أن الأمر أسهل من ذلك بكثير، إن التصنيف العلمي والمعرفي لفهم هذه الظاهرة أو تلك أمر يختلف كثيراً مع التصنيف الذي بحثه الشيخ بكر، إنه يبحث في «التصنيف» الذي تترتب عليه عواقب وأحكام شرعية، فوصف الآخر بالاعتزال، أو الطرقية، أو الأشعرية، هي بالنسبة لي - كباحث - أوصاف مفيدة معرفياً، لأنه يتبنى هذا الرأي في المسائل الدينية تلك، لكنه لدى الشيخ وبقية طلبة العلم يترتب عليه أثر دنيوي في التعامل من تكفير وتحذيرٍ وهجر، وأخروي، باعتبار هذه المقولات قد تذهب به إلى مصيرٍ مأساوي، لذلك فإن التحذير من التصنيف لدى بعض المشايخ سببه ما يترتب على التصنيف من أحكام.
ولكن مع احتكاك المسلمين بالدراسات والعلوم الإنسانية يمكننا تجاوز هذه الحساسيات من التصنيفات، والضابط في ذلك القانون، ليس من حق الفرد وضع أحكام لا دنيوية ولا أخروية ضد مخالفه الفكري، هنا تتدخل الدولة لضبط ذلك الخلاف، ولكن ما دام التصنيف في ظلّ دائرة البحث ومحاولة الفهم للمقولات والأفكار، فهذا أمر سهل، بل مفيد أيضاً.